العبادة وسيلة لتطهير القلب . يرتدي العالم الإسلامي بدخول شهر رمضان المبارك ثوبا قشيبا من مظاهر العبادة والإقبال إلى الله عز وجل، ومظاهر التوبة والإنابة إليه، ركعا سجدا يذكرون الله… كل هذا يثلج الفؤاد ويدل على تجليات الله على عباده بالرحمة والمغفرة وإصلاح الشأن، ولكن كثيرا من المسلمين يتيهون عما هو أهم من هذا كله في هذا الشهر.
إن مما لا ريب فيه أن الإقبال على النوافل المتنوعة هو من مظاهر التقرب إلى الله… ولكن الأهم من ذلك كله أن نعود إلى قلوبنا فنصفيها ونطهرها من الشحناء والبغضاء والأحقاد، وأن نعود إلى ما ترتب علينا من حقوق الآخرين فنؤديها، وأن نعود إلى الأخلاق الفاضلة التي ربانا عليها رسول الله ﷺ.
إن كل ما شرعه الله من طاعات وعبادات إنما جعلها وسيلة لتطهير القلوب من السخائم والضغائن والأحقاد وسوء الأخلاق، ووسيلة إلى مراعاة حقوق الإنسان لأخيه الإنسان فلا يهدر له حقا أيا كان، فإذا أديت الطاعات وبقيت القلوب محشوة بالسخائم وبقيت الحقوق معلقة فإنني أخشى أن يكون ذلك دليلا على أن الله لم يتقبل إقبال هؤلاء المقبلين إليه… ولو كان فيها من مقومات القبول مما قد طلبه الله وشرطه إذا لأثرت هذه العبادات على القلوب فطهرتها… وإذا لرأينا أن الحقوق الضائعة حفظت وأعيدت إلى أصحابها.
شهر رمضان فرصة للعودة إلى قلوبنا فنطهرها، إنه التراحم الذي ينبغي أن يشيع فيما الناس.
جبر الأفئدة ثمرته جبر الفؤاد من قبل الله، وكسرها ثمرته كسرها من قبل الله، فمن كان طاهر القلب مراعيا لحقوق الناس بعد حقوق الله يجبر الخواطر الكسيرة ويرحم الضعفاء من الناس، بدأً من أفراد الأسرة وانتهاء بالمجتمع الإنساني، لا بد أن يرحم الله هذا الإنسان فيجبر كسره هو الآخر، ولا بد أن يرحمه.
إن الأمر ينطلق من الدائرة الصغرى، من الأسرة “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” مما يدل على أن العلاقة بين الزوجين عندما تفسد وتتحول إلى نقيض هذا الذي يقوله الله فإن مرد ذلك إلى الإنسان نفسه وليس إلى الله، مرده إلى الشيطان الذي دخل دائرة هذه الأسرة فاستسلم له الزوج أو الزوجة ففسدت العلاقة التي غرسها الله، علاقة الود والحب والتراحم…
تعالوا نجعل من عنوان الشهر دليلا لما تحته، ولا تجعلوا من هذا العنوان قبة لا يوجد في داخلها مزار، اجعلوا من الإقبال دليلا على أن القلوب أصبحت طاهرة، على أن علاقة ما بيننا أصبحت قائمة على المودة وإعطاء كل ذي حق حقه، ودليلا على وشيجة التراحم والقربى، بدأً من الدائرة الصغرى، الأسرة، إلى الدائرة الكبرى، أفراد المجتمع الإنساني.
إن علاقة المجتمع، بعض أفراده ببعض، هي صدى ونتيجة لعلاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض، فبمقدار ما تكون الأسرة متماسكة قائمة على مبدأ التراحم والود ينعكس ذلك على أفراد المجتمع، يقول ﷺ “أقربكم مني مجالس يوم القيامة ألطفكم لأهله”. وكم وقفت أمام هذا الحديث متسائلا: لماذا لا يكون لطف الإنسان مع إخوانه الآخرين أيضا له هذه الميزة الكبرى، وفيم خص رسول الله ﷺ لطف الرجل لأهله بهذه المزية؟ أليس اللطف مطلوبا مع الجميع؟ الجواب نعم، ولكن هناك سرا، أنا عندما أنفذ هذه الوصية النبوية في السوق فإن هنالك أسبابا كثيرة للطف الذي أعاملهم به، هي أسباب تجارية، ودنيوية، أصطنع اللطف من أجل مزيد من الربح والعلاقات التجارية… ولكن إذا عدتُ في المساء إلى داري وأغلقت الباب، ما هو العامل الذي سيحملني على هذا اللطف الذي يأمرني به رسول الله ﷺ مع أهلي، لا سيما إن كانت قد مضت سنوات طويلة على الزواج من هذا الإنسان الذي دخل الدار؟ لن يكون هناك إلا عامل واحد هو تنفيذ أمر الله ووصية رسوله ﷺ، ومن ثَمَّ جُعل جزاء هذه المعاملة أن يكون قريبا من المصطفى ﷺ يوم القيامة في الجنة، فما بالكم بهذا الأمر عندما يدخل هذا الشهر المبارك؟!
إذا رحل الإنسان غدا إلى الله بقلب ناصع صاف قَبِلَهُ الله على علاته وإن كان مقلا من العبادات والطاعات، ولكن إذا رحل وقلبه فياض بالأحقاد والضغائن وسوء الأخلاق، وعنقه تحمل الكثير من الحقوق المادية أو المعنوية للآخرين فإن عباداته الكثيرة لن تكون شفيعا له آنذاك، ألم تسمعوا دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام “واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”، لم يقل إلا من أتى الله بعبادات وفيرة …
قال ﷺ “أتدرون ما المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”.
احذروا الخصام والسباب والشقاق، وتراحموا لتُرحموا، فنحن بأمس الحاجة إلى رحمات الله تتنزل علينا لتريح أمتنا من هذه الحروب والفتن المدلهمات التي أفنت العباد البلاد، وكلٌ يدعي وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك، كلهم يدعي خدمة الإسلام، والإسلام منهم بريء، إنما هي المصالح والدراهم والسياسة، وقاتل الله السياسة.