الجمعة , نوفمبر 22 2024

ركن الطريقة السابع: الجوع

هذا هو الركن السابع والأخير من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. أستهله بآيات من كتاب الله تدل على حقيقة فهمنا لهذا الركن حتى لا نتهم فيما ليس فينا. يقول الله تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ..﴾ [الآية 32 سورة الأعراف].

فلسنا ممن يحرم ما أحل الله، إلا أننا ننادي بالاعتدال والتوسط في التعامل مع شهوة البطن، ونرمي بذلك إلى المجاهدة وعدم الإفراط في تناول الطعام والبغي بغير الحق، لأن البغي في الشيء الحلال حرام، وهو من الإسراف الذي نهى الله تعالى عنه ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الآية 31 سورة الأعراف] ، ومصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم “مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ” [الترمذي] . وهذا هو الاعتدال بعينه. وهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية الذي إذا قسناه بأنماط الاستهلاك القائمة في زماننا وجدنا هناك بوناً شاسعاً بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وما هو قائم اليوم، خصوصاً إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل إلا في مِعْي واحد، ولم يشبع من خبز الشعير قط، ولم تكن توقد في بيته النار لطهي الطعام شهوراً عدة، وكان أغلب طعامه الأسودان التمر والماء. ولم يكن ذلك فقراً ولا فاقة إلا أنه اختاره صلى الله عليه وسلم تعليماً لخيار أمته، كيف لا وقد عَرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً فأبى ذلك وقال: أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر. وهذه هي الحكمة الحقيقية من هذا الركن.

وقد عرفنا لاحقاً أن النفس البشرية تجنح بطبيعتها نحو الشهوات، وهي أمَّارة بالسوء أصلاً. فالمجاهدة والرياضة هما درب التزكية لهذه النفس حتى تتمكن من الشكر، قال تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الآيتان 9 و 10 سورة الشمس]، فالصفات الذميمة في النفس، ومنها الشره في الطعام، أمور يجب تقويمها وتحويلها إلى صفات محمودة، فالشُّحُّ يتحول بالمجاهدة والتزكية إلى السخاء، والبغض إلى الحب، والكِبر إلى التواضع، والغضب إلى الحِلْم، والسخط إلى الرضا، وهكذا في بقية أحوال النفس. ولا يتأتى ذلك إلا بالمجاهدة والتزكية.

وصيام النافلة هو جزء من التطبيق العملي لهذا الركن ولهذا المفهوم المعتدل لحقيقة الجوع، فكان رسول الله صلى الله عليخ وسلم يحث على صيام النافلة من هذا الباب، فقد أمر عليه الصلاة والسلام بصيام الأيام البيض من الشهر القمري (13، 14، 15) وحثَّ على صيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، ثم قال “أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ،كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ” [البخاري] ، إلى آخر أنواع صيام النافلة. وما ذلك إلاّ دربة على قيادة النفس وإحكام السيطرة عليها، حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عدم الإقبال على الموائد بنهم وشراهة للصائم، حيث أنه سنَّ لنا أن نُفطر على تمرات، ثم نقوم لأداء صلاة المغرب، وبعدها يكون الإفطار، وهذا علاج علمي ثبتت فائدته مخبرياً، حيث تبين أن هذه التمرات تعيد للجسم مادة السكر التي فقدها خلال النهار، والتي يؤدي فقدانها إلى الإقبال على الطعام بشراهة عند الإفطار، فأمَرَنا أولاً بتناولها ثم الصلاة، وفي أثناء الصلاة تعيد هذه التمرات الجسم إلى طبيعته وتعوض ما فقد من مادة السكر، وبعد الصلاة يُقبل على الطعام بشكل طبيعي لا شراهة فيه.

والمعروف أن كثرة الطعام تقسِّي القلب وتؤدي إلى الجشع والطمع، هذا عدا عن كونها تؤذي الجسد وتُسبب الأمراض المزمنة، كأمراض القلب وضغط الدم والسمنة والجلطات والسكري وغيرها. والاعتدال في تناوله يمنع ذلك كله. كما أن الجوع يُذَكِّر الغني بالفقير ليَسُدَّ فاقته وجوعه، فقد قال صلى الله عليه وسلم ” لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَبِيتُ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ” [المستدرك على الصحيحين].

فهذا الركن إذاً يحافظ على التوازن والتكافل في المجتمع المسلم من خلال التطبيق العملي له، حين يتذكر الغني الجائع فيَسْلَم المجتمع من حقد الفقراء والجائعين حين يسدوا رمقهم ويطفئوا عطشهم ويمحوا فاقتهم.