الخلوة وهي نوع من أنواع الاعتكاف يقصد بها تنقية القلب مما علق به من ران أثناء ممارسة الحياة العادية بما فيها من مفاتن ومعاصٍ، فينصح السالك ما بين الفترة والأخرى بهذا الاعتكاف، يفرد فيه القلب لذكر الله والتفكر بمخلوقاته. ولا بد لهذه من شيخ يعالج آفات النفس كما يعالج الطبيب علل الجسد.
أما مدتها فيحددها الشيخ المعالج كما يحدد الطبيب كمية الدواء ومدته. ولا يفهم من هذا المعنى الرهبنة، كما عند النصارى، أو الانقطاع عن الناس وترك الأهل والأولاد بلا معيل، فإن هذا تواكل ينافي التوكل، حاربه الشرع الحنيف. فهي إذاً ابتعاد عن الدنيا بكل زخارفها فترة من الوقت، يستريح فيها الجسد والفكر من مشاغل الدنيا، ويأخذ فيها القلب جرعة من الإيمان تدفعه في عليين.
مشروعية الخلوة:
الخلوة فعل شرعي أمر به القرآن الكريم، وهي اقتداء بنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم الذي كان يخلو بغار حراء الأيام والليالي. ثم هي سنة الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم الخليل لما ازداد عصيان قومه ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [الآية 48 من سورة مريم] ، ويقول تعالى في قصة أهل الكهف ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الآية 16 سورة الكهف] . هذا في جانب اعتزال المشركين، وهذه عزلة دائمة تختلف عن المعنى الذي ذكرناه سابقا. أما ما نريده من العزلة هنا فهو أقرب إلى الخلوة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل عليها من السنة النبوية:
“عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ”[جزء من حديث طويل في كتاب صحيح البخاري، باب بدء الوحي].
وقد عُلِمَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الاعتكاف حتى قُبض. فكان يخلو في العشر الأواخر من رمضان. وقد سماه الفقهاء اعتكافاً.
وللعلماء في الخلوة أقوال كثيرة كلها تحث عليها، ولا يتسع المجال هنا لذكرها كلها، وأذكر بعضها على سبيل الاختصار:
الإمام الغزالي: يقول في كتاب «الإحياء» (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ القلب من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها، لينفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينْزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص، فلا بد من ضبط الحواس إلا على قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة، وعندما يسْلَم من عِلَلِه وأمراضه وتعلقاته ومشاغله وخواطر الشيطان ووساوسه يستحق نعيم قربه، ويستعد لتلقي العلوم اللدنية والأسرار الربانية والنفحات النورانية.
أبو الحسن الشاذلي: يذكر رحمه الله للخلوة عشر فوائد: السلامة من آفات اللسان، وآفات النظر، وحفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة، وحصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، والسلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، والتفرغ للعبادة والذكر، والشعور بحلاوة الطاعات، وراحة القلب والبدن، وصيانة النفس والدين من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة، والتمكن من عبادة التفكر والاعتبار.
الدكتور مصطفى السباعي: يقول في كتاب «مذكرات في فقه السيرة»: يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله، ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصَّرت في خير أو زلت في اتجاه.
وأخيراً أختم برواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”، وذكر “وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” [البخاري] .