الجمعة , نوفمبر 22 2024

ركن الطريقة الخامس: الصمت

الصمت هو الركن الخامس من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، ويدخل هذا الركن ضمن أنواع مجاهدة النفس وترويضها وتحويل آفاتها المذمومة إلى صفات محمودة، ومعنى الصمت السكوت، وعكس الصمت آفة من آفات اللسان الذي إذا ترك له الحبل على الغارب استرسل في الثرثرة وكثرة الكلام التي تورد الموارد. وآفات اللسان كثيرة ليس المكان هنا لذكرها، إلا إنه لا يؤمَن جانب اللسان وخطره إلا بهذا الركن (الصمت)، الذي يجمع الهمة ويُفْرِغ الصـبر. قـال تعالى ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [الآية 18 سورة ق]، وقال أيضاً ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿2﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [الآيات 1 – 3 سورة المؤمنون] . وقال تعالى في وصف المؤمنين ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [الآية 55 سورة القصص] . ففي هذه الآيات تنبيه وتحذير من الله بأن العبد مراقب فيما يقول، ويُكتب عنه ذلك، ومدح للمؤمنين الذين يُعرِضون عن فضول الكلام وما لا حاجة لهم بقوله، ونهي عن الخوض فيما لا يعني، ومفارقة أهل اللغو الذين لا هَمَّ لهم سوى الخوض في الباطل وفي أعراض الناس والغفلة عن ذكر الله وما والاه.

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اللسان وآفاته وثرثرته، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”مَنْ صَمَتَ نَجَا”[الترمذي] . وعن عقبة بن عامر قال “قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك، ولْيَسَعَكَ بيتك، وابْكِ على خطيئتك”[الترمذي].

وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ (اللسان) ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ(الفرج) أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ “[البخاري].

وعن معاذ بن جبل قال “قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول؟ فقال ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النار على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم”[الترمذي وصححه، وابن ماجة، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين].

وفي الحديث المرسل، ورجاله ثقات، عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن؟ الصمت وحسن الخلق”[كتاب الصمت وآداب اللسان].

وفي الحديث المتفق عليه قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”[البخاري ومسلم].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب”[البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].

والأحاديث في الصمت كثيرة، كلها تدل على فضيلته وأن فيه النجاة والسلامة والفلاح. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الآية 114 سورة النساء].

وقد تحدث الإمام الغزالي رحمه الله في آفات اللسان وذَكرها وفصّلها. وأختصرها للسالكين ليتيسر الفهم:

الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني: لقوله صلى الله عليه وسلم: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”[أحمد، والترمذي، وابن ماجة].

الآفة الثانية: الخوض في الباطل:وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر ومقامات الفساق. وقريب من ذلك الجدال والمراء، وهو كثرة الملاحاة (المنازعة) للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الكبر والعجب. فينبغي للسالك أن ينكر المنكر ويبين الصواب، فإن قُبِل منه ذلك وإلا ترك المماراة. أو فيما يتعلق بأمور الدنيا فلا صحة للجدال فيها. عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “إن أبغض الرجال إلى الله الْأَلَدُّ الخَصِم”[البخاري].

الآفة الثالثة: التقعر في الكلام:ومعناه التشدق وتكلف السجع. عن أبي ثعلبة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون”[أحمد]. والتفيهق: التنطع في الكلام يملأ فمه به لإظهار فصاحته لما في ذلك من كبر وعجب.

الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء:عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش”[ابن حبان في صحيحه]. وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء” [الترمذي].

الآفة الخامسة: المزاح:إلا ما كان يسيراً منه فلا يُنهى عنه إذا كان صادقاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح، ولا يقول إلا حقاً، فإنه قال للرجل: يا ذا الأذنين، وقال للعجوز: إنه لا يدخل الجنة عجوز، ثم قرأ ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ﴿35﴾ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا﴾[الآيتان 35 و 36 سورة الواقعة] ، وقال لأخرى: زوجك الذي في عينيه بياض! فهذا مزاحه صلى الله عليه وسلم، وكان حقاً ونادراً. أما الإفراط فيه والمداومة عليه فهو منهي عنه لأنه يسقط الوقار ويوجب الضغائن والأحقاد.

الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء:ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في العمل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وكلُّه ممنوع في الشرع.

الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد، والكذب في القول واليمين:إلا ما رُخِّص فيه الكذب لزوجته لإصلاحها، وفي الحرب، ولإصلاح ذات البين. وتباح المعاريض لقوله صلى الله عليه وسلم “فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ” [كتاب عمل اليوم والليلة لابن السني، عن عمران بن حصين] ، وتباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح، وإلا فالاسترسال بها قد يؤدي إلى الكذب.

الآفة الثامنة: الغيبة:والنهي عنها واضح في الكتاب والسنة لقوله تعالى: ﴿..وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا..﴾ [الآية 12 سورة الحجرات] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ” [البخاري] . وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ” [أبو داود] . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ” [مسلم] .

فهذه بعض آفات اللسان، وتلك هي فضيلة الصمت الذي هو مفتاح الحكمة ومهد الذكر.