الجمعة , نوفمبر 22 2024

ركن الطريقة الرابع: الفكر

لا شك بأن الفكر هو عصب المعرفة، وبه يمكن التعرض للمعاني والفهوم، ورصد موجات العلوم. وقد عرف الكثيرون أهميته ومشروعيته من خلال قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الآية 190 سورة آل عمران] . إلا أن كثيرين قد غفلوا عن كيفيته وكيف يمكن أن يكون عبادة. وما ربط طريقتنا الخلوتية لهذه العبادة وجعلها ركناً من أركان الطريق إلا ليفهم ذلك، فهو الركن اللاحق لركن الذكر، لقوله تعالى في تتمة الآية وتعريف أولي الألباب بأنهم ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [لآية 191 سورة آل عمران].

فكما أن الله قد أثنى على الذاكرين المتفكرين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أولى هذه العبادة عناية خاصة، فعن عطاء قال: “انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: زر غباً تزدد حباً. قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبكت، وقالت: كـل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذن الصبح. فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الآية 190 سورة آل عمران] . ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”[صحيح ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبي سليمان]. فقيل للأوزاعي ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن ويعقلهن.

وعن طاووس قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم، من كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرة، فإنه مثلي.

وقال الحسن: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو.

وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عِبادة أبي ذر فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر.

وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، وكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان، إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة. وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل. وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.

وإذا أردنا معرفة حقيقة الفكر فإن الأمر يطول ويصعب في مكان لا تحمد فيه الإطالة والصعوبة، وتسهيلاً على إخوتنا أحثهم على التفكر في أمورٍ جانبٌ منها يتعلق بآفات النفس والتفكر بالخلاص منها والسعي لتحويلها إلى خصال محمودة. فعلى السالك أن يتفكر في آفات نفسه: كالبخل والكبر والعجب والحسد وشدة الغضب والرياء وحب المال والجاه وشره الطعام والوقاع. هذه الآفات على السالك التفكر بها للخلاص منها.

وجانب آخر يتعلق بأمور محمودة على السالك التفكر فيها والإكثار منها: كالندم على الذنوب والرضى والصبر والشكر والزهد والإخلاص وحسن الخلق والحب. ثم إن على السالك أن يتفكر كل يوم ويحاسب نفسه بقية النهار على نهاره كيف أمضاه، وهل اجتنب النواهي وجاء بالأوامر الشرعية.

وتسهيلاً على السالك في هذا الركن من أركان الطريق أنصح بتوجيه الأسئلة التالية للنفس كل يوم حتى نقرن الفكر بالعمل، فيتفكر السالك بأمره ويسأل نفسه هذه الأسئلة:

  • هل تفكرت في بديع صنع الخالق في أرضه وسمائه وجميع خلقه؟
  • هل تفكرت في نفسك وبديع صنع الله لك؟
  • هل ذكرت الله عند قيامك من نومك؟
  • هل صليت الفجر جماعة؟
  • هل قرأت أوراد الصباح؟
  • هل استفتحت يومك بسؤال الله لك أن يرزقك الرزق الحلال؟
  • هل سألت الله أن يدخلك الجنة واستعذت به من النار؟
  • صليت اليوم السنن الراتبة والتطوع؟
  • هل واظبت على قراءة الأوراد؟
  • هل كنت خاشعاً اليوم في صلاتك وتدبرت معانيها؟
  • هل حمدت الله على نعمه؟
  • هل قرأت وتعلمت وحفظت وتدبرت شيئاً من كتاب الله؟
  • هل صليت على النبي صلى الله عليه وسلم اليوم؟
  • هل عدت مريضاً؟
  • هل أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر؟
  • هل نصحت في الله؟
  • هل وصلت من قطعك؟
  • هل عدلت في الغضب والرضى؟
  • هل عفوت عمن ظلمك وأعطيت من حرمك؟
  • هل كان صمتك فكراً ونطقك ذكراً ونظرك عبرة؟
  • هل أحببت وأبغضت في الله؟
  • هل أهديت هدية لتأليف قلب بزيادة حب ومودة؟
  • هل حاولت الإقلال من الضحك؟
  • هل تفكرت في نعم الله عليك؟
  • هل تصدقت اليوم؟
  • هل ابتسمت في وجه أخيك؟
  • هل نطق لسانك غيبة ونميمة وسخرية؟
  • هل تذكرت الموت والقبر والحساب والصراط والنار؟
  • هل ختمت يومك بتوبة نصوحاً؟

وهكذا يستقيم أمر الطاعة من خلال الفكر الدال على الخير. ثم ليتأمل قول الله تعالى ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…﴾ [الآية 101 سورة يونس] ، وقوله ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الآية 21 سورة الذاريات] . ويتأمل حقيقة خلقه من نطفة، ويتفكر في نفسه، فإن في خلقه من العجائب الدالة على عظمة الله ما يفني عمره في النظر إلى أقله. ثم ليتأمل الكون وخلقه، وكيف خلق الله في باطن الأرض خيرات جمة للإنسان، الذهب والفضة والحديد والنفط. وفي التراب، كيف يخرج منه الزرع مختلف الألوان. والبحار العظيمة وما فيها من الأحياء والأرزاق، وكيف جعل الله فيها الأحجار الكريمة واللؤلؤ والصدف والمرجان والعنبر. والماء الذي جعل منه كل شيء حي، ولولاه لما كانت الحياة، ويتفكر الإنسان ماذا لو منع عنه الماء. ثم يتفكر بالهواء والأكسجين ومعادلته العلمية الدقيقة، والغيوم والرعد والمطر والثلج والبرد والشهب والصواعق، والطير التي تسبح كمـا يسـبح حيوان البحر في الماء، والسماء وعظمتها وكواكبها وشمسها وقمرها، ودخول الليل بالنهار والنهار بالليل، ومسير الشمس واختلاف الفصول من الصيف إلى الشتاء والربيع والخريف، وكيف تستقيم الحياة على هذا الشكل الرتيب، وماذا لو اختل هذا الميزان.

ومن غفل عن هذا الفكر فلن يعرف ربه، وقد نسي نفسه واشتغل ببطنه وفرجه، فتفكر بذلك، فإن هذا هو مفتاح المعرفة.