الجمعة , نوفمبر 22 2024

ركن الطريقة الثالث: الذكر

الذكر هو الركن الثالث من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. وكلمة الذكر في القرآن الكريم لها معان كثيرة. فعني بها في معظم النصوص التسبيح والتكبير والتهليل والذكر بالأسماء، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

وعندنا كما فهمنا من أشياخنا أن الذكر هو جميع ذلك. لكن المعتبر فيه ما غلب استعماله عرفاً. ولفظ الذكر قد غلب استعماله في ذكر الله حقيقة، وهو: الإكثار من ذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وغير ذلك من الصيغ. والذاكر عندنا لا يكون ذاكراً إلا إذا كان مكثراً في ذكره، لأن الإقلال من الذكر صفة المنافقين بدليل قوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الآية 142 سورة النساء].

فالأصل هو الإكثار من الذكر. وفي كثير من الآيات ورد الذكر مقروناً بكلمة كثيراً: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿41﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الآية 41 و 42 سورة الأحزاب].وقـال تعالى ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الآية 35 سورة الأحزاب]. وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾[الآية 41 سورة آل عمران]. وقال تعالى ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الآية 10 سورة الجمعة].

قال مجاهد: (لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً). وقال ابن عباس رضي الله عنهما (المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منـزله ذكر الله تعالى).

وعلى هذا فالذكر هو الدواء النافع لكل أمراض النفس، وهو الصاقل للقلوب، الدافع للبلاء والحزن والهم والغم، الجالب للسكينة والأنس والصبر والرضى والحب وغير ذلك. قال تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الآية 28 سورة الرعد] ،ولأنَّ وقع الذكر على قلوب المنافقين ثقيل، فكثيراً ما تجدهم ينكرون على الذاكرين ذكرهم، فلا يلتفت أحد إلى ما يقال من أهل الغفلة عن الذكر والذاكرين. ومصداق ذلك ما أخرجه مسلم في باب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ، قَالُوا: وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا”[الحديث في الترمذي، ورواه الإمام مسلم بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ.] . والمستهتَرون هم المولعون بالذكر، المكثرون منه، ولا يبالون بما قيل فيهم، ولا بما فعل بهم.

وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرٌ من الأحاديث في فضل الذكر، أذكر بعضها اختصاراً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر” [أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، وحسّنه.]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء. قال فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله حِلْهُم لنا نعرفهم (أي صفهم لنا) قال هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه” [الطبراني بإسناد حسن].

الجهر والإسرار بالذكر:
شرع الذكر سراً وجهراً، بأدلة كثيرة، إلا أن الذي عليه العلماء العاملون أن الجـهر بالذكر أفضل، إذا خـلا من إيذاء قارئ أو نائمٍ أو مصلٍ، وإذا خلا من حب الشهرة والرياء.

ومن الأدلة الشرعية النبوية التي تَرُدُّ على من ينكر الجهر بالذكر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي (وهذا دليل على ذكر السر) )، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ (وهذا دليل على ذكر الجهر، والذكر في الملأ لا يكون إلا جهرياً)، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً” [البخاري].

وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال ابن الأدرع صلى الله عليه وسلم: “انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر برجل في المسجد يرفع صوته. قلت يا رسول الله: عسى أن يكون مرائياً. قال: لا، ولكنه أوَّاه[البيهقي كما في الحاوي للفتاوي للسيوطي].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتُهُ” [البخاري ومسلم].

وعن السـائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “جاءني جبريل قال: مُر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير” [أحمد وأبو داود والترمذي وصححه السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوي»، وغيره].

أما الذين يستدلون بالآية الكريمة ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾[الآية 205 سورة الأعراف] ، فللعلماء آراء واضحة في ذلك: منها ما أشار إليه ابن كثير في تفسيره أن هذه الآية مكية كآية الإسراء ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: ١١٠] ، وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله، فأُمر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نُهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الآية 108 سورة الأنعام] ، وقد زال هذا المعنى، كما كان الحال في قصة الفاروق رضي الله عنع في توزيع الصدقات على المؤلفة قلوبهم، فقد أبى ذلك في المدينة عندما قويت شوكة الإسلام، وقال كنا نؤلف قلوبهم لما كان الإسلام طريداً.

ثم إن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وأنه أمر بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنه الأصوات.

وقد ذكر بعض العارفين في ذلك أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمَّل، وأما غيره ممن هم محل الوساوس فمأمورون بالجهر، لأن الجهر أشد تأثيرًا في دفعها. ويؤيد ذلك هذه الرواية المدنية، والله أعلم: ” عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ: وَمَرَّ بِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ، قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَقَالَ لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. زَادَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا، وَقَالَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا. حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنِ بنُ يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، لَمْ يَذْكُرْ: فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا، وَلِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا، زَادَ: وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَ: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ” [أحمد، وأبو داود، والترمذي، والمستدرك على الصحيحين، والبيهقي. واللفظ هنا لأبي داود]

ويستدل البعض على كـراهية الـذكر بالجهـر بالآية الكريمة ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الآية 55 سورة الأعراف] . ولم يتنبه هؤلاء إلى أن هذه الآية تتكلم عن الدعاء (ادعوا)، لا عن الذكر، والإسرار في الدعاء أفضل، لأنه أقرب للإجابة ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [الآية 3 سورة مريم].

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلاةِ، إِذَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، لا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسِنُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” [الطبراني].

وعلى هذا فلا بأس بأنواع الذكر وأشكاله كلها، سرها وجهرها. وقد تميزت طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية بحرصها على أداء الذكر بكل أشكاله وألوانه ضمن أورادها الصباحية والمسائية

حكم الذكر بالاسم المفرد (الله):
وهذا الذكر أيضاً واجب بالأمر الإلهي الوارد في:

قوله تعالى ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [الآية 8 سورة المزمل]

قوله تعالى ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الآية 25 سورة الإنسان]

قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ﴾ [الآيتان 14 و 15 سورة الأعلى]

قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الآية 91 سورة الأنعام]

أما السنة النبوية، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: اللهُ اللهُ” [في صحيحه في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، وأحمد في مسنده] ، وهنا ورد لفظ الجلالة مكرراً.

وقد اعترض بعضهم على الذكر بهذا الاسم لأنه لا يؤلف جملة تامة مفيدة كما في قولنا: يا لطيف، يا ودود. والجواب على ذلك أن الذاكر للأسماء الإلهية وللاسم المفرد لا يكلم مخلوقاً يجد عسراً في إفهامه، فهو يذكر الله تعالى العالم بنفسه، المطلع على قلبه

قال ابن عجيبة وأبو حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن اسحق وأبو حفص: أن لفظ (الله) هو الاسم الأعظم. وهو اعتقاد العارفين بالله، نفعنا الله بهم.

حكم الذكر الجماعي:
وقد اعترض البعض على الذكر الجماعي ومشروعيته بسبب أن منهج طريقتنا يقوم في جانب منه على الذكر الجماعي. فأسوق الأدلة الشرعية التي تثبت صحة هذا المنهج:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ” [البخاري].

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر” [أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، وحسّنه]. وحِلَقُ الذكر لا يشكلها فرد ولا بد لها من جماعة.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء. قال فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله حِلْهُم لنا نعرفهم (أي صفهم لنا) قال هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه” [الطبراني بإسناد حسن].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم فقـد بُدِّلَت سيئاتكم حسنات” [الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح].

وهكذا تظهر أهمية الذكر الجماعي، حيث يستفيد الغافل من الذاكر، والمظلم من صاحب النور، والجاهل من صاحب العلم.