الجمعة , نوفمبر 22 2024

ركن الطريقة الأول: الحب

اختار أشياخنا الحب ليكون الركن الأول من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، لأن أي مقام يُدرَك، ما هو إلا ثمرة من ثمار الحب، كمقام الشوق والرضا والتسليم. وأي مقام يسبق الحب ما هو إلا مقدمة من مقدماته، كمقام الإيمان والتوبة والتحمل والزهد. ونعني الحب الإلهي، الذي من ثماره ينبثق الحب النبوي، وحب أنبياء الله وأوليائه وأحبابه.

ومن أدرك مقام الحب أدرك حقيقة الإيمان لقوله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾.[ الآية 165 سورة البقرة.] وأبلغ ما يقال في تعريف الحب ما قاله الإمام الجنيد رحمه الله عندما سئل عن علامات المحبة، فكان جوابه: (فيضان الدموع من عينيه وخفقان القلب بالهيام والشوق).

وقد افترى بعض المغرضين من الكفرة والملاحدة فريةً مفادها أن العلاقة بين الخالق والمخلوق تقوم على الرهبة والبطش والعنف والتخويف. وأترك الجواب على هذه الفرية لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيهما من الأدلة في الرد على ذلك، وإثبات حقيقة الحب وفضله: قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[الآية 54 سورة المائدة]

قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾.[ الآية 165 سورة البقرة.]

قال تعالى ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.[ الآية 31 سورة آل عمران]

  • قال تعالى ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾.[ الآية 146 سورة آل عمران]
  • قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.[ الآية 42 سورة المائدة]
  • قال تعالى ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.[ الآية 93 سورة المائدة]
  • قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾.[ الآية 222 سورة البقرة]

وقبل أن نورد الأحاديث النبوية المتعلقة بالحب، لا بد من الإشارة إلى لامعة لطيفة وهي أن علاقة الحب بين العبد وربه أمرٌ لا يكون إلا بمحبـة رسـول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة أوليائه. وهي شرط من شرائط الإيمان:

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ثلاثٌ من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار”.البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان.

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما في كتاب الإيمان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” .[البخاري ومسلم]

وقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله ومحبة رسوله بوضوح، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي” .[الترمذي]

فيا أيها السالك، إذا أردت أن تحظى بشرف الحب الإلهي وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب أوليائه، وشعرت أن هذا الحب لم يتمكن في قلبك فأكثر من تلاوة القرآن الكريم، وتدبر معانيه، وأكثر من ذكر الله تعالى بكل أنواعه، وتقرب إلى مولاك بالنوافل، وليكن هواك تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمل في صفات الله تعالى وأسمائه، وراقب آلاء الله ونعمه عليك، وليكن التواضع قرينك، وقم الليل بجد واجتهاد، واستغفر الله في الأسحار، وجالس الصالحين الصادقين من عباده، وإياك ثم إياك أن تدعي المحبة ادعاءً ظاهراً، وإذا حصل لك أُنْس فاكتم حبك إجلالاً لمولاك، وتحوَّل عن القواطع التي تبعدك عن كل ذلك. فإذا فعلت ذلك وجدت لهذه المحبة حلاوة في قلبك تغنيك عن ملذات الدنيا وشهواتها.

مراتب الحب

ذكر العلماء للمحبة مراتب عشراً، ذكرها الشيخ عبد القادر عيسى في كتابه «حقائق عن التصوف»:

  • أولها العلاقة: وسميت بذلك لتعلق القلب بالمحبوب.
  • الثانية الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
  • الثالثة الصبابة: وهي انصباب القلب إلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في المنحدر.
  • الرابعة الغرام: وهو الحب اللازم للقلب، لا يفارقه بل يلازمه كملازمة الغريـم لغريمـه.
  • الخامسة الوداد: وهو صفو المحبة وخالصها ولبها.
  • السادسة الشغف: وهو وصول الحب إلى شغاف القلب.
  • السابعة العشق: وهو الحب المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه.
  • الثامنة التتيم: وهو التعبد والتلذذ. يقال تيّمه الحب أي أذله وعبّده.
  • التاسعة التعبد: وهو فوق التتيم، فإن العبد لم يـبق له شيء من نفسه.
  • العاشرة الخلة: انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق موضع لغير المحبوب.

وأختم الموضوع بلطيفة ذكرت أن أحد الصوفية مر على رجلٍ يبكي على قبر فسأله عن سبب بكائه فقال: إن لي حبيباً قد مات. فقال لقد ظلمت نفسك بحبك لحبيب يموت، فلو أحببت حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.

والحب الصادق ينقل المريد إلى الركن الثاني من أركان الطريق وهو: الإمتثال.