الجمعة , نوفمبر 22 2024

العام الجديد 2016

العام الجديد 2016 : الناس عندنا للأسف يؤرخون لأيامهم ومعاملاتهم وسني عمرهم بالتاريخ الميلادي، وعلى هذا فقد انقضى عام ميلادي وجاء عام، ولا ينبغي لفرحنا بالآتي أن ينسينا نصيبنا من الآفل.

وارتباطك بمجيء أيام جديدة معناه أنك قد هدمت من عمرك أياما، واقتربت من الدار الآخرة خطى، وأصبحت من الموت أقرب منك إلى الميلاد، إنه الزمن، رسولك إلى الموت ورسول الموت إليك.

أقسم الله بالعصر إيذانا بقيمة الوقت في الإسلام حتى قال سيد المتقين ﷺ “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”. “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.

ومن معاني قول الله عز وجل “ولا تقتلوا أنفسكم”، أشار المفسرون إلى أن من معانيها: لا تقتلوا الوقت الذي جعله الله زادكم إلى الدار الآخرة، فلا تضيعوه بالعبث واللهو.

وما من يوم جديد إلا ويقول: أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد.

الناس مثلهم كمثل قوم حطوا من سفر، فنزلوا مدينة مقصودة، فعلى الفور انقسمت الناس زرافات زرافات، الطلاب يذهبون إلى المدارس والجامعات التي قصدوا، والتجار يذهبون إلى الأسواق التي أرادوا، والسواح يذهبون إلى مواضع الآثار وغيرها، وكذلك نحن في هذه الدنيا، كل ميسر لما خلق له، وكل الخلق ساعٍ، فمعتق نفسه أو موبقها، “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.

من أنت أيها المسلم؟ أنت جئت إلى هذا العالم، من أجل أي شيء جئت؟ ما هي غايتك في هذه الدنيا؟ يجيب عنه الله عز وجل “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، لذلك ما ضيع السواح مقاصدهم، ولا ضيع التجار أسواقهم، فلا تضيع أنت أيها المسلم تلك الغاية التي جاءت بك إلى الدنيا، وكن من أمر دنياك على حذر فإن الله تعالى خلق الوجود على أربعة منازل.

أنَّ النقطة إذا تحرَّكَت رسَمَتْ خطًّا، والخطّ إذا تحرَّك رسم سَطحاً، والسَّطح إذا تحرَّك رسمَ حجماً، والحجم إذا تحرَّك شكَّل زمناً، فأنت في طول ومساحة وحجم وزمن فانظر كيف تمضي بك أزمانك، وانظر كيف تلقى الله عز وجل يوم القيامة.

من استوى يوماه فهو مغبون، أي صاحب تجارة خاسرة، ومن كان أمسه خيرا من يومه فهو محروم، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له.

الناس يراجعون حساباتهم مع مطلع كل عام، فأين أنت أيها المسلم؟ أين أنت في العبادة؟ كم كانت صلاتك في العام المنصرم؟ كم هي في العام القادم؟ كم ركعة كنت تركع في كل أسبوع في هذا العام؟ كم جزءا من القرآن كنت تقرأ، وكم جزءا من القرآن ستقرأ؟ كم يوما صمت في العام المنصرم من النافلة وكم ستصوم في هذا العام؟ أين أنت من ذكرا الله سابقا وأين أنت منه لاحقا؟

قال سيدنا علي: حياتك أنفاس تُعَدُّ فكلما مضى نفس منها انتقصتَ به جزءا.

أين أنت من العلم في العام المنصرم والعام القادم؟ كم كانت حصيلتك في العلم؟ كم مجلس علم حضرت؟ كم كتاب علم قرأت؟ كم حديثا لرسول الله حفظت؟ كم موقفا من مواقف المعرفة شهدت؟

لو أن واحدا منا رمى في بيته حصوة عند كل معصية لأصبحت دارك ركاما من الحصى، ولكن الإنسان ينسى، والله لا ينسى! “يوم يبعثهم الله جميعا فينبؤهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد”.

أين أنت في السلوك أيها المسلم؟ أين أنت في الأخلاق أيها المسلم؟ كم كان لك في عامك الماضي من خصماء وكم لك في عامك هذا من خصماء؟ اعلم أنه إذا كثر خصماؤك فإنهم يوشكون أن يتحلقوا حولك يوم القيامة، فلا يدعون من حسناتك حسنة إلا أخذوها، ولا يدعون من سيئاتهم سيئة إلا طرحوها عليك حتى يكبك الله في النار والعياذ بالله على وجهك!

يقول الإمام الغزالي رحمه الله: راودتني نفسي عن الخطايا، فلما وجدتها كثيرة احتفرت لها قبرا فتمددت فيه، وصنعت بنفسي ما يصنع الناس بالجنائز، وصورت لها أني قادم إلى لقاء ربي، فلما أيقنت نفسي بذلك قلت لها ماذا تشتهين؟ قالت: أشتهي أن أعود إلى الدنيا ساعة لأمضيها في طاعة الله، قال: فوددت من قبري وقلت لها: أنت في تشتهين، هيا إلى الطاعات.

وأنت أيها المسلم، أنت فيم تشتهي اليوم من طول الأمل وفسحة الأجل ونعمة الحياة؟ قال ﷺ: بادروا بالأعمال الصالحة، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفندا، أو هرما مفضيا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمرّ.

ومن كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومن كلام سيدنا رسول الله ﷺ: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

اسمعوا يا أبناء الثلاثين: صرتم في النصف الأخير من عمركم، اسمعوا يا أبناء الأربعين: أنتم في العد التنازلي، اسمعوا يا أبناء الخمسين: على ماذا تنظرون؟ اسمعوا يا أبناء الستين: خطبكم الشيب وأصبحتم مدعوون إلى الله، يا أبناء السبعين: أمهلكم الله للتوبة فحذار من المعصية، فإنكم ضيوف الله في الأرض.

قام رسول الله ﷺ يوما على منبره الشريف فقلّب وجهه في الناس فقال: إن الله يستحيي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام، ثم بكى ﷺ، فقالوا ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي لأن الله يستحيي أن يعذب ذا الشيبة، وأن ذا الشيبة لا يستحيي أن يعصي الله!

لست أجهل أنها آجال بيد الله، فتعمر ما عمّر نوح، وقد تسقط من غير أن تستهل صارخا، لكن المتوسط في الستين، فماذا أعددت؟ الأرقام واعظ ناطق، الأرقام قاض محايد!

كانت الدنيا لناس قبلنا رحلوا عنها وخلوها لنا، نحن نسكنها قليلا بعدهم، ثم نخليها كما خلوا لنا.

قال أبو العتاهية:

يا ساكن الحجرات ما لك غير قبرك مسكن
فكأن شخصك لم يكن في الناس ساعة تدفن
وكأن أهلك قد بكوا جزعا عليك ورتلوا
فإذا مضت لك جمعة فكأنهم لم يحزنوا
الناس في غفلاتهم ورحى المنية يطحن

وقال الشافعي رحمه الله:
والله لو عاش الفتى في عمره ألفا من الأعوام مالك أمره
متلذذا منها من كل عجيبة متمتعا فيها لغاية عمره
لم يعرف الأسقام فيها مرة أبدا ولا خطر الهموم بباله
ما كان هذا كله بجميعه بمبيت أول ليلة في قبره

اللهم ارحمنا إذا وارانا التراب، وفارقنا الأهل والأحباب، ودعينا لساعة الحساب.

يأيها الذين فرحوا بالعام الجديد، أنا أدعوكم لتحزنوا على العام الفائت، لأنكم تقدمتم من موت خطوة، وابتعدتم عن الميلاد خطوة، فأوشك أن تلقوا ربكم بما عملتم.

ولقد يعيش المرء دهرا طويلا بهجا قرير عين، ثم يقول: ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام!

يروى أن ملك الموت جاء إلى زيارة سيدنا يعقوب عليه السلام فقال له يعقوب: يا ملك الموت: أجئتني زائرا أم قابضا؟ قال: بل زائرا، قال: فإن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قال: إذا جئتني قابضا أن ترسل لي رسولا من قبلك، قال: نعم، فغاب سنينا ثم جاء بعد ذلك، فقال له يعقوب: يا ملك الموت: أجئتني زائرا أم قابضا؟ قال: بل قابضا، قال: ألم أكن قد سألتك أن ترسل إلي نذيرا من قبلك لأزيد في طاعاتي وأزيد في حسناتي؟ قال: قد فعلت، قال: ما وصلني منك شيء، قال: بلى، أرسلت إليك رسولين اثنين، الشيب في رأسك، وانحناء ظهرك.

فكم من سفير قد جاءك من الموت أيها المسلم، وكم من نذير في عارضيك ومفرمك، وكم من يوم سلمك الله فيه وكان الموت أقرب إليك من حبل الوريد؟!

والناس تستقبل أعوامها الجديدة، تستقبلها بالمعاصي والآثام، ويزدحمون على أماكن الخطايا وكأنهم خلقوا للحياة دون الممات! فرح الناس بدخول السنة الجديدة وكأنه ليس في الدنيا كوارث تحزن، وكأنه لا يوجد في الدنيا ما يوجد تكمير الفرح!

يا عباد الله، كيف تفرح أمتنا بالعام جديد؟! كيف يفرح العالم بالعيد وحقوق الإنسان تذبح عند نعال المستكبرين كل يوم؟! من أين لهم أن يفرحوا ويرقصوا وإخواننا في أقطار الإسلام يعانون الأمرّين ويوشكون أن يكونوا جثة تستقر في بطون السباع وحواصل الطير وأسماك البحار! والله يا سادة، لا عار على أوروبا إذا فرحت وقد خلا قلبها من الإيمان، ولا عتب على أمريكا وقد خلا قلبها من الرحمة، فإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى “إذا لم تستح فافعل ما شئت”. ولكن العار كل العار على أمة سيدنا محمد ص، تتراقص وتتمايل وتنتشي وتحتفل وكأن كل مشاكل العالم الإسلامي قد حلت، وكأن وقت الحزن قد ولى، وجاء وقت السفاهة والضحك، وكأن كل المسلمين في أمان من غوائل المستكبرين، وكأن المسلم لا يذبح مسلما، وكأن المسلمين لا يخربون بيوتهم ودولهم بأيديهم! من أين ترتسم البسمة على شفة المسلم وإخوان له في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها يذبحون عند نعال المستكبرين وبأيدي المسلمين! كيف يستطيع المسلم أن ينظر إلى تراقص كاذب وألعاب ومفرقعات ومصائر الأمة لا تزال في أيدي أعدائها، يلقون بأفراد هذه الأمة نحو الفناء من خلال الفتن وحرب التكفير التي أتت على الأخضر واليابس، زرعوا فينا ثقافة الكراهية والموت حتى ما عاد مسلم يحب مسلما، بل عادت الأمة يضرب بعضها رقاب بعض، حلت ثقافة التكفير محل التفكير، أصبحنا بلهاء، يعبث بعقولنا البلهاء، فلا ننظر للحياة إلا بالمنظار الأسود القاتم، لا نعذر الآخر ولا نقبله. شوهنا إسلامنا بأفعالنا، وأولنا النصوص القرآنية، لا نقول على أهوائنا، بل على أهواء أعدائنا، صرنا مطايا لكل ناعق، وفي مؤخرة ركب العلوم والمعارف. اصطفت أقدامنا، ثم عند العبث نكون في المقدمة.

أكبر المستهلكين نحن، أكبر احتفال عندنا، أكبر راية، أكبر طبق، أكبر برج، أكبر وجبة، أكبر بطن، أكبر حمق، أكبر تبعية، أكبر قتل، أكبر سبي، أكبر دمار، أكبر هدم، أكبر لسان، أكبر هذيان، وإلى الله المشتكى!

إذا كان من حق الغرب أن يضحك فمن حقنا أن نبكي، ونحن نرى أن كرامة العرب والمسلمين تدوسها حثالة من الصهاينة وأتباعهم حيث تلقي بشعوبنا في أودية الموت والتفرقة والذبح والدمار، ساخرة هازئة بكل تاريخنا وعقولنا ومستوى تفكيرنا.

يا رب يا رب، لا قوة لنا إلا بجلالك، اللهم بك نصول، وبك نجول، وبك نذرأ في نحور الجبابرة، اللهم انقطعت آمالنا إلا إليك، اللهم خاب رجاؤنا وظننا إلا فيك، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم رب السماوات وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لنا جارا من خلقك أجمعين، أن يفرط علينا أحد منهم، أو أن يطغى، يا ذا الجلال والإكرام أعد لأمتنا رشدها المفقود ودينها المختطف.

أيها الإخوة، عودوا إلى أنفسكم في العام الجديد، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.