إن الهوية التي ينطق بها كيان الإنسان أنه عبد مملوك لله، (إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً، لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً). وجوهر هذه الهوية في حياته أن يمارس العبادة لله تعالى (يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)، (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
والعبادة كالبناء لا بد أن تكون مشدودة إلى أساس في باطنه، فما أساسها؟ إنها العبودية لله تعالى. العبادة سلوك يؤدي من خلاله الإنسان الوظائف التي كلفه الله بها، ولكن هذا السلوك لا يستمر ولا يستقيم على وجهه السليم إلا إذا كان مقاما على أساس، وأساس العبادة العبودية التي هي حال يصطبغ بها كيان الإنسان، ولذلك كان ابن عمر يقول: كنا نتعلم الإيمان ثم نتعلم القرآن، أي العبودية قبل العبادة.
العبودية والاصطباغ بها أن تعلم وتستيقن أنك لا شيء من دون الله عز وجل، وأنك بالله تعالى تتقلب في شؤونك وأحوالك وتصرفات وتقلباتك، هذا هو الأساس الذي يفتقده كثير من المسلمين اليوم في الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية.
وسبيلك أيها المسلم أن تقف أمام مرآة هويتك وذاتك، وأن تتبين كيانك الماثل وراء قفصك الجسدي، تأمل وستعلم ان بالله تبصر الدنيا، ولو أن رعاية الله ونوره ترى به الدنيا انفصل عنك لما رأيت شيئا، والأمر نفسه ينطبق على سمعك وحسك وشعورك ورقادك واستيقاظك وتقلبك في مختلف أحوالك وشؤونك.
عندما يدرك العبد هذا المعنى وهذه الحقيقة، ثم يغذي هذه الحقيقة بالإكثار من مراقبة الله ومن ذكر الله فإن ثلاث حقائق تنقدح من هذه الحال: أول هذه الحقائق هي الحب، فعندما تعلم أنك بالله كل شيء، وأنك من دون الله لا شيء، عندما تدرك ذلك وتعلم أن كل ما تتمتع به إنما هو أت إليك بسر من عناية الله وألطاف الله ونور الله، عندما تعلم هذا فإن قلبك يتوهج بالحب لهذا الإله. ثم إن هذا السر وهذه العبودية تورثك تعظيم الله وتملؤ كيانك تعظيما له، ومن ثم تدرك أسرار الله عز وجل في قوله (ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ…)، هذه العبودية هي التي تحملك على السلوك إلى الله عز وجل والانقياد التام إليه، لا لشيء إلا لأن الله أمر ولأنه نهى ولأنه أراد لك أن تسير في هذا الطريق.
إنكم لتلاحظون في مجتمعنا حديثا لا ينتهي عن الإسلام والاعتزاز والحب والتباهي به، حديثا لا مثيل له في عهد السلف الصالح، ولكن “أسمع جعجعة ولا أرى طحنا”. نحن نتباهى بإسلامنا تراثا ونسبة، ما الذي ينقصنا؟ ينقصنا أن نترجم هذا الاعتزاز إلى عبادة نؤدي بها الواجب الذي خاطبنا الله به إذ قال (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، لكن العبادة كيف تتحقق؟ أين مشاعر العبودية لله؟ أين الغيرة الحقيقية على دين الله؟ أين الحال الذي يصطبغ بها كياني فأعلم أنني لا شيء دون الله؟ إذا أبصرت وسمعت وعقلت وأدركت فأقول له: حمداً لك يا رب، بنورك أبصر وأسمع وأعقل وأدرك …
هذه الأحوال لو ازدهرت لتحققت العبادة سلوكا في حياتنا لله، لا لشيء آخر، ولتحقق معنى الإخالص من هذا السلوك، ولو تحققت هذه العبودية في كياننا اصطباغا لانقدحت مشاعر المحبة لله، لكننا بعيدون منفصلون عن هذه الحالة.
إذا أراد أحدنا أن يتدين يذهب فورا إلى الفروع دون إيمان ودون علم ودون قرآن، ويبدأ بانتقاد الآخر، هذا لحيته كذا، وهذا ثوبه كذا، وهذا خاتمه كذا، وهذا شكله كذا … يا هذا تعلم الإيمان أولاً، وتعرف على نفسك وربك، واشتغل على ذاتك من خلال تعلمك للقرآن ثانياً.