ولد الشيخ حسن حسين عمرو في قرية دورا ـ الخليل، التي هي من أكثر قرىٰ الخليل نفوذاً، وقد عرف عن أسرته أنهم بيت زعامة، كما عرف عنهم قوة الشكيمة، ووحدة الكلمة، والاعتداد بمكانتهم.
كان سيدنا حسن من الشباب الفتوة الذين يخشىٰ بأسهم في منطقته، والناس يجتنبون شره، ولكن الله سبحانه وتعالىٰ أنزل علىٰ قلبه السكينة، وأنار له الطريق إلىٰ التوبة والهداية. فنراه في لحظة تفكير ومحاسبة النفس ويقظة الضميـر، يمتطي صهوة فرسه، ويشد الرحال إلىٰ مدينة الخليل، ويدخل زاوية الأشراف فيها، ويتجه حيث يجلس سيدنا عبد الرحمن الشريف ويقص عليه كل ما جنته نفسه، وأنه نادم علىٰ ما فعل، ويرغب في أن يتوب ويرجع إلىٰ الله علىٰ يديه وينسلك في طريقته، عسى أن يقبله الله تعالى ويغفر له، ويلهمه رشده. فأدناه سيدنا عبد الرحمن منه، ولقنه عهد الطريقة وسلّكه في مدارجها، وأدّبه بآدابها، وحفّظه أجزاء من كتاب الله، وأوراد الطريقة.
وبعد ملازمة طويلة لشيخه لاحت عليه البشائر وأشرقت روحه، فرأىٰ فيه شيخُه أنه أصبح ممن يعوّل عليهم في نشر الطريقة، فألبسه خرقته الصوفية بمنصبه نقيباً، وأجازه بإعطائها لمن يرغب فيها، وجعل مركزه في زاوية (الدوايمة). وكانت هذه ثاني إنابة وإجازة تعطىٰ لمريد إذ كان النقيب الأول، هو الشيخ شحادة العناني في قرية حلحول في الطريقة الخلوتية.
ولم يكن هذا الاختيار ليقع من شيخه إلاّ لأنه كان مريداً محباً طائعاً، متذوقاً مستنيراً، يحمل قلباً صافياً نقياً ومتحلياً بفضيلتي الصدق والأمانة، ومتذوقاً لحلاوة الإخلاص والوفاء بالعهد. كل ذلك من غير أن تجول في نفسه أطياف مباهج الدنيا وزينتها، أو تجعله عبدا لشهواتها ومآربها وأغراضها. وكان من ذوي الفهم والإدراك للإشارات والرموز، واكتشاف خفايا النفوس. كما كان علىٰ معرفة دقيقة بالخير والشر، وكيفية الفصل بينهما، وقدرة علىٰ خلع ثوب الباطل عن الحق، في منطق مقنع وصبر جميل.
كان يعي معنىٰ مجاهدة النفس وتجلدها وكيفية ترويضها للإذعان لمشيئة الأقدار، يعرف فنّ اغتيال اليأس في النفس البشرية، ومفهوم الثقة والاطمئنان، والصمود في وجه النكوص، بنفاذ بصيرة. وبذا كان ارتفاعه في نظر شيخه وتقديره له، وإنابته إياه ليكون نقيباً ثانياً بعد أن صهرته الطريقة في بوتقتها، وطهرت روحه تطهيراً عجيباً.
لقد كشف شيخه فيه صدق التوبة وخلوص النية ومجاهدة النفس لـمحو نزعات السوء، ودقائـق الرياء والنفاق والأطماع والشهوات الدنيوية، وأنه لم تعد تؤثر فيه وتتملكه زخارف الحياة ومغرياتها ومتعها.
بكل هذه الفيوضات الربانيـة، والنفحـات الروحية، والإمدادات الإلهية، كانت كمالات سيدنا حسن حسين عمرو في الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، وبذلك كانت صحائفه الغرّ، وأمانته المثلىٰ، في الحفاظ علىٰ خط نهجها المتبع والمرسوم من قبل مؤسسها. فكثر الإقبال على الطريقة، والدخول فيها عن عقيدة نقية. وحسبه أنه لم يتخذ منها وسيلة دنيوية أو يحدث فيها ما يعد خروجاً عليها، أو مجافياً لسبيلها، أو متعارضاً مع واجباتها، في أداء رسالتها، والقيام بوظائفها، من افتتاح قراءة أورادها واختتامها، أو إدارة شؤونها وتطبيع مريديها بطابع مسلكها، وغير ذلك من اندماجهم بأرواحهم في روحانيتها.
هذا هو سيدنا الشيخ حسن حسين عمرو، الذي ابتدأ مريداً فصار نقيباً في الطريقة الخلوتية الرحمانية الجامعة، فخدمها ما لا يقل عن خمسة وسبعين عاماً، ثلاثة أرباع قرن من الزمان، من عمره الذي وصل به إلىٰ سن الرابعة بعد المئة. فلم تغيره الدنيا ولا خالط مقصده الزيغ والانحراف، ولا نقض عهداً، ولم يتلاعب بالألفاظ والكلمات، ولا اتخذ من الطريقة حرفة وسبيلاً إلىٰ ثراء أو سلطة، فتسامىٰ عن حضيض المادة إلى علياء الروح.
ولما كان الشيخ حسن يعرف أن الطرق الصوفية لم تكن يوماً سلعاً تنتقل من يد إلىٰ يد، فهي كانت ولم تزل لها أصحابها، وأصحابها أحق بها وأولىٰ، نراه يقوم بأداء الأمانة امتثالاً لقوله تعالىٰ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58] . فحين حضر سيدنا خير الدين عنده في قرية الدوايمة، كان أول ما فعله الشيخ حسن هو أن بادر إلىٰ أداء الأمانة إلىٰ أهلها، فنزل عمـا أجازه به شيخه الأكبر عبد الرحمن الشريف، في إعطاء الطريقة وتربية المريدين وسلمه إلىٰ سيدنا خير الدين نجل سيدنا عبد الرحمن الشريف.
انتقل إلىٰ جوار ربه عن مئة وأربع سنين، بعد سنتين من تولىٰ سيدنا الشيخ خير الدين لمشيخة الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. لم ينتحل شرف انتساب، كما لم يحاول الاستيلاء علىٰ الطريقة. كما لم يبتدع لنفسه تكليف المريدين دفع زكاتهم لشخصه، ولم يتاجر بالدين لأجل أغراض دنيوية شخصية.
تلك هي الشخصية الـمهيبة الوقورة، الصادقة الأمينة المخلصة الوفيـة، شخصية سيدنا حسن حسين عمرو الذي أفنى حياته الصالحة في نشر الطريقة وتسليك وتربية المريدين. رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة والعطاء. آمين.