مؤسس الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية
(1244هـ = 1828م ـ 1305هـ = 1888م)
الحسيب النسيب، تاج العارفين، درة العلماء المحققين, وعمدة الفضلاء المدققين، الصوفي الكبير، السيد عبد الرحمن بن السيد حسين الأول بن السيد يوسف الأول الشريف السقواتي، المتصل نسبه الشريف بسيدنا الحسين بن السيدة فاطمة الزهراء. وأمه هي السيدة خديجة من آل الزعبي الكرام، في مدينة طرابلس الشام، ذات المشرب الجيلاني، ممن طبقت شهرتهم بلاد الشام.
ولد قُدس سره، في زاوية الأشراف عام أربعة وأربعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية. ونشأ في كنف والده العارف بالله، السيد حسين الأول، وتحت رعاية والدته. تربىٰ على يدي والديه التربية الدينية الحقة، وتلقى عن والده علوم الطريقة الخلوتية وتعلم أورادها وآدابها؛ ما أهّله لخلافة والده في مشيخة الطريقة الخلوتية، والقيام علىٰ تربية المريدين، وإرشاد السالكين.
وفي الرابعة عشرة من عمره، فقد والده، وبقيت والدته، السيدة خديجة الزعبية، فشمر عن ساعد الجد والعمل، وامتثل لأمر والده وكذا رغبة والدته في إرساله إلىٰ طرابلس الشام، لتلقي الطريقة الخلوتية عن خؤولتها آل الرافعي وأخذ العهد من شيخها الأكبر آنذاك، الشيخ محمود الرافعي، الملقب بأبي الأنوار، فأقام بضع سنوات، فنال ما رامه. والراوية التالية التي وردت في إجازته قُدس سره إلى أحد خلفائه تشير لذلك:
«إِنَّ وَالدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَرَّحَ لِي بِأَنَّ شَيْخِي هُوَ أَبُو الأَنْوَارِ مَحْمُوْدٌ الْطَّرَابُلْسِيّ الرَّافِعِيّ العُمَرِيّ، قَائِلاً لِي: «يَا وَلَدِي قَدْ أَخْبَرْتُكَ بِما أَنا مُجازٌ بِهِ مِنْ أَشْيَاخِي. غَيْرَ أَنَّ شَيْخَكَ الَّذي عَلَيْهِ المُعَوَّلُ، وَخِدْمَتُهُ أَوَّلُ، هُوَ سَيِّدي أَبو الأَنْوارِ. فَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتي لِتَغْتَنِمَ أَنْظارَهُ وَرِضَائِي».
فَكَانَ الأَمْرُ كَما أَمَرَ؛ وَهُو بِأَنْ آتي سَيِّدي العَارِفِ المُشارِ إليهِ بعدَ أَن انْتَـقَلَ وَالدِي بِشَهْـرَيْنِ ـ وَكَانَ عُمْرُ الشَيّخِ عَبدِ الرَّحْمنِ حِينَذاكَ أَرْبَعَ عَشْرةَ سَنَةٍ ـ ثمَّ أَمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِتَوَجُّهي صُحْبَتَهُ، فَتَوَجَّهْتُ لِخِدْمَتِهِ مَصْحوباً بِوَالِدَتي وَإِخْوَتي. وَأَقَمْتُ بِذَلِكَ النَّادِي، وَاقِفاً بَيْنَ الأَيَادي ثَلاثَ سِنينَ، بَعْدَ أَنْ لَقَّنَنِي الأَسْماءَ السَّبْعَةَ عَلى طَريقِ السَّادَةِ الخَـلْوَتِيَّةِ بِالإِشَاراتِ البَاطِنِـيَّةِ. وَأَدْخَلَنِي خَلْوَتَهُمُ المَرْضِيَّةَ. وَأَلْبَسَنِي خِرْقَتَهُمُ السَّنِيـَّةَ. وَأَجازَني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِجَازَةً صَريحَةً عَامَّةً مُطْلَقَةً في ذَلِكَ كُلِّهِ؛ وَهُوَ بِأَنْ أُجِيزُ مَنْ شِئْتُ».
ثم توجه سيدنا عبد الرحمن من هناك إلىٰ دمشق الفيحاء، فجاور في جامعها الأموي الكبير سنوات عدة، نهل خلالها من العلوم الدينية والأدبية، عن كبار علمائها المدرسين لفنون العلم، بعد أن كان قد استكمل علم الحقيقة في طرابلس الشام، فعاد إلىٰ مسقط رأسه، مدينة خليل الرحمن، وأقام في زاوية آبائه وأجداده، ناشطاً إلىٰ نشر الحقيقة، وتشييد الطريقة، فبنى أسسها، وسطر كل ما يتعلق بها، من أوراد وأذكار، وتعاليم وآداب سلوكية، حتىٰ اشتهرت باسمه، وشاعت وذاعت بفضل جهوده. فلباه رجال لا تلهيـهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وكثر أتباعه ومريدوه، في مدينة الخليل وقضائها.
كان، قدس الله سره، ربع القامة، معتـدل الجسم، كث اللحية، أبيض البشرة، واسع العينين، يرسل شعره حتىٰ شحمة أذنيه، ويعتم بعمامة بيضاء، يستبدلها أحياناً بخضراء، يكورها فوق تاج الطريقة، بعذبة مسبلة بين كتفيه، علىٰ جبة من الصوف من تحتها قمباز.
إلى الشيخ عبد الرحمن يعود ـ بعد الله تعالى ـ الفضل في ظهور ما سُمي بعده بالطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، ثم إلىٰ زاوية السادة الأشراف الفواقا، التي لها في سيرة حياتهم شأن يذكر، لأنها تاريخهم الحافل. ووجودهم في مدينة خليل الرحمن خرّج منها كل عالم وعامل، وصوفي ذائق، ومربٍ فائق… نظموهم عقداً في جيد الزمان.
وإلىٰ جانب انهماك الشيخ عبد الرحمن، في أمور الطريقة ونشرها، فقد أنابه قاضي الخليل، الشيخ عبد الحميد الخيري الفاروقي، أن يقوم مقامه، في الفصل في الأحكام الشرعية علىٰ القاعدة الحنفية، في الدعاوىٰ المتعلقة بالحقوق الشخصية. وأعطاه توكيلاً رسمياً بذلك.
وهذا المنصب، الذي كفي قيامُه به من مشقة القدوم إلىٰ مدينة الخليل، التي كانت الناس ستتحملها جراء ذهابها إلىٰ القاضي، ناهيك عن صعوبة المواصلات في ذلك الزمن، ووعورة الطرقـات، فلا شك أنه خدم بها خلقاً من الناس الضعفاء والبسطاء، منطلقاً من مبادئه الصوفية في حمل أثقال الناس وكف الأذىٰ عنهم.
وسوىٰ هذا الـمنصب، لم يشغل غيره، بل أبقىٰ جهده مستفرغاً في نشر الطريقة والدعوة إلى الله. وكانت حصيلة مؤلفاته متنوعة، جلها في التصوف ومن هذه المؤلفات التي فتح الله به عليها والأوراد التي أُلهِمَها فاستنار وأنار بها، فكانت معانيها ومبانيها فتحا مبينا، لعله لم يسبقه لمثله سابق:
وردة الدرة الشريفة
تحفة الإخلاص
حزب السيف
حزب الهمزة
ورد القرآن
كتاب النصائح الرحمانية: ضَمَّنَهُ درراً من النصح والإرشاد بلسان المعرفة والذوق .
كتاب الدلالة السَّنية.
كتاب دلالة الـمسكين: شرح فيه أصول الطريق وآدابها وقواعد التصوف .
كتاب المولد النبوي الشريف
وكان قدس الله سره، أديبًا بليغًا، وشاعرًا صوفيًا كبيرًا، امتلك ناصية البيان، وطوّع في شعره اللغة للتعبير عن المعاني الروحية والسلوكية والعرفانية بأسلوب يتغـلغل في نفوس الـمريدين ويمس شغاف السامعين. وإن قصيدته التي سميت «تحفة الإخلاص» لَتَدل علىٰ ما له من قدم راسخة في العرفان والحقيقة واللغة الأدب. وله قصائد متنوعة ومساجلات شعرية مع صديقه العلامة الشيخ محمد خليل الخطيب التميمي الذي كان مفتي مدينة الخليل.
انتقل رحمه الله إلىٰ جواره سنة 1305هـ الموافقة 1888م، فيكون قد عاش في هذه الدنيا الزائلة إحدىٰ وستين سنة، ودفن إلىٰ جوار والده في زاوية الأشراف. رضي الله عنه ونفعنا ببركاته وأمداده. آمين.