الخميس , نوفمبر 21 2024

الشريف خير الدين بن عبد الرحمن الشريف

هو الحسيب النسيب العارف الرباني والقطب الصمداني، الواصل الموصل شيـخ الطريقة ابن شيخ الطريقة الخلوتية الرحـمانية. هو الذي يعد من مفاخر السادة الأشراف الأبرار، وأعيان الطريقة المجتبين الأخيار.

مولده

ولد في زاوية السادة الأشراف الفواقا مثوىٰ أبيه وجده، وفي جنباتها وأرجائها درج واشتد عوده. ارتوىٰ من آداب الشريعة الإسلامية، ونهج نهج أبيه في التعبد والتجرد، طاهر القلب نقي السريرة.

كان نحيل الجسم أبيض البشرة، وأقرب إلىٰ الطول. سَنِي اللحية. يرتدي من الأثواب الأبيض، ويعتم بعمامة خضراء ملفوفة علىٰ تاج مزركش. يضع في عنقه سبحة يُسر ذات المئة حبة. باش الوجه، حلو الحديث، رقيق الحاشية، طويل الصمت، قليلاً ما يهجع، وما امتلأ بطنه من طعام قط.

تعليمه

أتم دراسته الأولية في المدرسة الابتدائية القائمة آنذاك بمدينة الخليل، ولكنه كان ملازماً لحلقات الدروس ومجالس الوعظ التي كان يلقيها أجلة علماء مدينة الخليل في الحرم الإبراهيمي الشريف. تأهّل للالتحاق بالجامع الأزهر الشريف، وأقام فيه ناهلاً من علوم الشريعة مرتوياً من ينابيع المعارف والآداب عدة سنين، نال فيها من شيوخه الأجلاء الإجازة بالتدريس والفتوىٰ. وعاد إلىٰ وطنه ـ الخليل ـ شُعلةَ علم ومعرفة، متحلياً بآداب الدين الكاملة.

الوظائف التي شغلها

كانت الوظيفة التي شغلها بعد عودته هي (مبصر) أي مفتش لمعارف الخليل، ثم نقل إلىٰ مدينة (الرملة) ليشغل نفس الوظيفة، وفي خلال هذه الفترة سيق إلىٰ الخدمة العسكرية الخفيفة في الجيش التركي إبان الحرب العالمية الأولىٰ، إذ عين إماماً. وفي أواخر سني الحرب علم بوجود ـ أخيه الشيخ عارف ـ في مدينة (قونية) حيث كان منفياً إليها فكاتبه، وبعد حين وافاه إليها ونزل في رحابه، ولم يكن يحمل في حقيبته العسكرية سوىٰ (سبحة مؤلفة من ألف حبة)، كان دائم التسبيح بها بعد تلاوة أوراده. وحيث كانت الحرب العالمية الأولىٰ قد وضعت أوزارها وبدأ تسريح الجيش التركي، لم يشأ رحمه الله أن يعود إلا مع أخيه وعائلته. وما لبثت السلطات التركية أن سمحت بعودة المنفيين العرب، فعادا معاً إلىٰ مسقط رأسيهما مدينة الخليل.

وبعد وقت قصير من انتهاء استقبال المهنئين بسلامة العودة في باحة زاوية الأشراف الفواقا، توجه الشيخ خير الدين إلىٰ قرية «الدوايمة» إحدىٰ قرىٰ لواء الخليل لزيارة مريد والده الرجل الصالح الأمين الشيخ حسن حسين عمرو الذي ما إن علم بقدوم سيدنا خير الدين، حتىٰ نهض واقفاً، كما لو كان في أيام شبابه، فتعانقا عناقاً حاراً، وقال له:

«لقد أطلت علينا يا سيدي خيري». فرد عليه: «إنها الأقدار يا سيدي حسن».

ثم طلب الشيخ حسن من أحد المريدين أن يذهب إلىٰ منزله ويأتيه (بالفروة) المحفوظة في الصندوق الخشبي ـ وهي التي كان سيدنا عبد الرحمن الشريف قد ألبسه إياها حين نَصَّبه ليكون نقيباً عنه في زاوية الدوايمة ـ وقال للشيخ خير الدين علىٰ مسمع من المريدين الحاضرين في الزاوية: «إليك أمانة أبيك»، وخلعـها علىٰ ظهره، فأجهـش كلٌ منهمـا بالبكاء، وكانت هذه الواقعة إشارة إلىٰ إلقاء مقاليد الطريقة إلىٰ سيدنا خير الدين [وهي إشارة صوفية بتسليم مشيخة الطريقة إليه.] . ثم طلب سيدنا حسن من المريدين السلام علىٰ سيدنا خير الدين.

لما دخل سيدنا خيري الدين زاوية الدوايمة ـ حيث يقيم سيدنا الشيخ حسن كما قدمنا ـ خاطب الشيخ حسن مريدي الطريقة الحاضرين قائلاً: «خصصوا لسيدنا خير الدين غرفة من غرف الزاوية وافرشوها له». ثم كلفهم بدعوة جميع الأخوان الغائبين ليوافوه للتو، فحضروا، وما إن استقر، حتىٰ دعا المريدين جميعاً أن يتقدموا لأخذ الطريقة من سيدنا خير الدين كما فعل هو، وأضاف قائلا: «إن سيدنا خير الدين هو الوارث الشرعي للطريقة وحامل أمانة سرها الأعظم». فنهضت جموع المريدين وتلقوا الطريقة منه، وكلما قدم فوج اقتدىٰ أفراده بما قام به الشيخ حسن وإخوانه الأوائل، وبهذا تصدر سيدنا خير الدين مشيخة الطريقة ومقام الإرشاد فيها، محتفظاً لسيدنا حسن بقدره الكبير ومقامه الجليل.

بهذا الفهم المدرك لمعاني الانسلاك في الطريقة الخلوتية الرحمانية الجامعة، والتذوق القلبي لطعم الإيمان بها، والتدرج بمراتبها، والتخلق والتأدب بأخلاق وآداب أهل اليقين فيها. كانت كمالات الشيخ حسن حسين عمرو في الطريقة حين نزل عما أجازه به شيخه الأكبر سيدنا الشيخ عبد الرحمن الشريف من إعطاء الطريق وتربية المريدين في طريقته، وأعاد أمانة المشيخة والإرشاد إلىٰ نجله سيدنا خير الدين.

وما انقضىٰ علىٰ ذلك بعض الوقت، حتىٰ انتقل الشيخ حسن إلىٰ رحمة الله. عرف الجميع له فضل الطاعة وحفظ الأمانة وحسن تأديتها إلىٰ أهلها.

فحملها سيدنا الشيخ خير الدين، وبحمله لها كان قد حمل سر رسالة أبيه ـ مشيخة الطريقة الخلوتية الرحمانية وإرشادها الأكبر ـ وبذلك أخضع نفسه لروحانيتها المشرقة (الجهاد والصبر) وهما من أكبر دعائم الإيمان والوصول إلىٰ اليقين، فانقطع بكليته إلىٰ العبادة والزهد في الدنيا وزينتها، بقلب فياض بالتوحيد وحقائق العرفان، والاستغراق في الحب.

انتشرت الدعوة على يده وحصل الإقبال وكثر المريدون في أقضية الخليل وطولكرم والرملة، الأمر الذي تطلّب توسيع الزوايا القديمة وإنشاء أخرىٰ جديدة في بعض القرىٰ، بتبرعات سخية من المريدين الذين أبوا إلا أن ينقش علىٰ لافتات أبوابها الحجرية اسم شيخهم الكبير المبروك المحبوب سيدنا الشيخ خير الدين الشريف، تكريماً له وعرفاناً بصلاحه وتقواه.

وفي شهر ذي القعدة من سنة (1345 للهجرة الشريفة) الموافق لسنة 1926م انتوىٰ رحمه الله الحج إلىٰ بيت الله الحرام، وقصد إلىٰ الديار الحجازية يرافقه عدد من المريدين القدامىٰ، وكتب في حينها وصية بخط يده، ذكر فيها أن مراده الذهاب إلىٰ المدينة المنورة علىٰ ساكنها أفضل الصلاة والسلام لأجل الزيارة وتقبيل أعتاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه قد أقام علىٰ أولاده القاصرين حسني داود القواسمـة وأشرك معه الحـاج محمد فؤاد زيد الكيلاني النابلسي، لأجل أن يديرا شؤونهم الدنيوية، وأوصاهم بتقوىٰ الله في الآخرة. وذكر فيها خروجه عن زوجاته بطلاقهن مع ذكر أسمائهن.

وقد رغب أن تكون سفرته إلىٰ الديار الحجازية عن طريق مصر، حيث أراد أن يزور شيخه وأستاذه (الشيخ الجربي) ولعله كان من شيوخه الذين تلقىٰ عليهم العلم في الأزهر المنيف. فأدىٰ ومن رافقه فريضة الحج، وعادوا بسلامة الله إلىٰ مقره في قرية (بيت أولا) مستأنفاً خدمته لطريقة والده بتبصر وزهد وتجرد قلبي أشد احتساباً واستنارة واتباعاً للسلف وصولاً إلىٰ النبع الأول الذي استقت منه الحياة الروحية الإسلامية المحضة التي مرجعها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فنحل جسمه ومرض وقعد، وطلب أن ينقل إلىٰ منزله بمدينة الخليل، حيث زاويته المجاورة له. طال سقمه ونحوله، وعاش آخر سنة من عمره في حالة تفوق الوصف من الروحانية العالية والإقبال القلبي على الله بالكلية.

وأرسل في أواخر أيامه رسالة للشيخ الجربي يكشف فيها عن حاله وعن اقتراب أجله ويرمز فيها إلى فئة من الأشرار الذين يضمرون الشر للطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية.

فاضت روحه الطاهرة إلىٰ باريها في التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة لسنة 1345هـ الموافق 1928م. ودفن رحمه الله في ركن من قطعة أرض داره التي امتلكها من ماله الخاص والتي تقع في حارة الشيخ علي البكاء بمدينة الخليل. وقد أعقب ثلاثة ذكور هم حسب ولادتهم: عبد الرحمن ويحيىٰ وحسن. رضي الله عنه ونفعنا به. آمين.