ثلاث شعرات

كنت في صغري وبالتحديد في بدايات سن المراهقة مولعا بالمسلسلات والأفلام التاريخية، فيلم “الرسالة” على سبيل المثال ربما حضرته أكثر من ألف مرة، كنت أحفظه عن ظهر قلب، أحفظ كل حركة قام بها “سيد الشهداء” لا سيما “الكف” الموجه الى أبي جهل الذي كان قلبي يكاد يطير معه، وحديث “الجليل” جعفر أمام النجاشي، و”السيف المسلول” خالد، وحشي، هند بنت عتبة، أبو سفيان، وابن العاص، حتى أنني كنت أحفظ تلك اللقطة التي “يعض” فيها الشريط أثناء “سهرة” من سهرات قريش “الحمراء”… وكان ذلك ليس مقتصرًا على فيلم “الرسالة” وإنما ولع عام بكل ما يحدث عن التاريخ الإسلامي…

“عصر الأئمة” مسلسل تاريخي يحكي سيرة الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، كان يبث على إحدى القنوات الفضائية في تمام الرابعة عصرا، أتابعه بصحبة والدايّ حفظهما الله، في إحدى حلقاته يخرج الإمام أحمد بن حنبل في طريق سفر، فيأتي واحة ليستريح، يدخلها وهو يمتطي حصانه، فيخرج عليه شيخ جليل طاعن في السن، يلقي الإمام التحية ويردها الشيخ بأحسن منها، من دون سابق إنذار يوجه الشيخ حديثه إلى الإمام قائلا أن لك عندي أمانة، فيرد الإمام بطريق بدت حسب “المخرج” باردة بأنه لا يعرفه وانه زاهد فيما بين يديه، فيقول الشيخ انك الرجل الذي جاءتني الإشارة له في رؤياي لأؤدي له الأمانة، فلم يدخل على هذه الواحة غيرك اليوم، يستمر الإمام من على حصانه بالحديث ببرود، حتى ينزع الشيخ من جيبه شيئا قد لف بشاش أبيض، فيقول الإمام ما هذا؟ فيرد الشيخ: ليس لي ولد يرثها وقد أطل الموت بأنيابه، وقد كان كل همي أن أؤدي هذه الأمانة لمن يستحقها، وقد جاءت الإشارة بك فخذها، فيقول الإمام وما هي؟ فيرد الشيخ: ثلاث شعرات من رأس رسول الله !!!!!!!!

انتهت حلقة ذاك اليوم عند ذاك الموضع، وشعر جسدي متصلب، لم أنم ليلتي وأنا أفكر، هل بقي الإمام بعد ذاك النبأ على صهوة حصانه؟ ما الذي حصل؟ هل أخذها؟ هل زهد بها؟ أين هي اليوم؟ عددت الساعات الثلاثة والعشرين الفاصلة بين الحلقتين ثانية ثانية…

في اليوم التالي “تسمرت” أمام الغرفة التي كان أبي يتخذها مكتبا له والتي كانت تحوي التلفاز قبل ساعة من موعد الحلقة، لا شيء في المكان غير السكون، وأنا أحدث نفسي بأنه واجب على المنزل أن يكون بحالة احتفال، مرت الدقائق ثقيلة، ثم دقت الساعة الرابعة، والباب لم يفتح وأنا على يقين أن أبي في الداخل، قرعت الباب مرات ومرات ولا من مجيب، مضت عشر دقائق، أيقنت في نفسي أن المشهد المنتظر قد فات، بكيت بكاء مرا، لطمت وجهي، واستلقيت على الأرض كمن فجع بكل ذويه….

دقت الساعة مشير للخامسة، وأنا قد زهدت بكل ما في هذه الدنيا، فتح الباب وخرج والدي من المكتب، كنت لا أريد أن أسأل فما فات قد فات، قال وقسمات وجهه توحي بالجدية بأنه قد غط في نوم عميق، ولكنه دعاني إلى الغرفة لكي نحاول إيجاد حلقة الأمس على فضائية أخرى، قلب جهاز التحكم وإذا بالمشهد يبدأ والإمام يدخل الواحة من جديد، حتى وصل إلى المشهد الذي قطع بالأمس والشيخ يقول: ثلاث شعرات من رأس رسول….

المفاجأة كانت أن المشهد لم ينقطع، فقد قفز الإمام عن حصانه ممسكا بالأثر بتبجيل، مصليا على النبي المصطفى، واله وصحبه الكرام البررة، تحجر الدمع في عيني، وشهقت شهقة فتى ارتد من الموت إلى الحياة، كان أبي قد سجل الحلقة على جهاز “الفيديو”، وجعلني في تلك الساعة الطويلة أهذي بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام…

لم يشف مشهد استلام الإمام للجواهر الثلاثة عطشي، كنت أعتقد أن أبي في نهاية المشهد سيخرجها من درج مكتبه ويمنحني إياها، إلى أن قال بصوت يرن في أذني حتى اليوم: “أبصر وين راح فيهن” قاصدا الإمام.

أحدثت تلك الحادثة ندبة فجرت في القلب ينبوعا، كان ذلك أول الغرس الذي قذفه والدي في قلبي… لم يمنحني الأثر وإنما دفعني لكي أغرف غرفة من محيط العشق النبوي….

سيدي رسول الله: والله اشتقت لتقبيل أعتابكم، فهل لهذا الهجر من وصال؟

بقلم محمد حسني الشريف