استغرقت في الأيام الماضية في رحلة إلى الجزائر الحبيبة “لأسباب أخرى”، وفي الحقيقة أكاد أزعم أن شعبها هو الشعب العربي الوحيد الذي ما زال يذكر فلسطين مع كل نبضة قلب، وربما أكثر من كثير من الفلسطينيين أنفسهم.
فلسطين لدى الجزائريين وحدهم اسمها مركب، فهي “فلسطين الحبيبة”، فما أن تعرّف نفسك بأنك من أصول فلسطينية، أو حتى تسكن بمحاذاة فلسطين حتى تتغيّر لغة الخطاب تجاهك بطريقة عاطفية بحتة، وليس أدلّ على ذلك ما أخبرني به صديقي الذي يقيم هناك -وهو من غزة- بأنه ذات مرة استوقفه رجل أمن طالبا منه أوراقه الثبوتية، فأبرز إقامته التي تُشير إلى أصوله، فما كان من رجل الأمن إلا أن قبّل الورقة، داعيا الله أن يفرّج عنهم، فاتحا له الطريق.
شعرت خلال هذه الزيارة القصيرة نسبيًا بأن هذا الشعب ما زال على فطرته، على جميع الصّعد، فهو صعب المِراس إذا ما تعلّق الأمر بحقوق الشهداء، مِضياف للغاية لكل عربي يطأ أرض الجزائر، فِطرته الدينية لم تتلوّث بما تلوّثنا به من تطرّف “رغم كل المحاولات” ، قيمه العروبية بادية للقاصي والدّاني، رغم أن الغالبية أصولهم ليست عربية، فهم إما أمازيغ أو طوارق، ونسبة قليلة من أصول عربية، ما زال يحافظ على لغته ويعتزّ بها قدر المُستطاع، رغم الاحتلال الفرنسي الذي دام ما يقرب من مائة وثلاثين عاما. وللأمانة كنت أجد صعوبة بالغة في فهم لهجتهم، مع أنهم يفهمون لهجتنا إلى حد ما، ويفهمون العربية الفصيحة تماما…
يردّ الجزائري ب “لا باس” ويتبعها بـ “الحمد لله” حين تسأله “كيف الحال؟”، وربما يُشير ذلك إلى المزاج العام المُتجذّر، فليس ثمة ربما شعب عانى بقدر ما عانى الجزائريون حتى نالوا استقلالهم، فجبالهم الشامخات الشاهقات، تذكّرنا بالبنود اللامعات الخافقات، شاهدة على الدماء الزاكيات الطاهرات، حين عُقِد العزم أن تحيا الجزائر…
رغم كل ما تقدّم، يُعاني الشعب الجزائري من اشتراكية أدّت بالاقتصاد إلى التّرهل ، وتحوله إلى نظام اقتصادي ريعي، يعتمد على استهلاك ثروته النفطيّة، فالخدمات المُقدّمة للناس في حدّها الأدنى، ولا يوجد ثقافة إنتاج في ظل اعتماد الدّولة على استنزاف ثروات البلاد، أيضا يُلاحظ تحوّل النظام إلى نظام أمني عسكري بامتياز، فعلى سبيل المثال يمكنك التّمتّع برؤية البحر لكن لا يمكنك الوصول إليه لاعتبارات أمنيّة، الحُجة هي مكافحة الإرهاب الذي عانى منه الناس لسنوات، ومع ذلك تجد أن الأمر مبالغ فيه، فالحواجز الأمنية تملأ الشوارع في مشهد ربما يُذكّر بسوريا في ثمانينيات القرن الماضي.
حفظ الله شعب الجزائر من كلّ متربّص يتربّص به، تلك البلاد التي نحبّها وتحبّنا…
محمد حسني الشريف