الرحمة في الإسلام ، يقول الحق تبارك وتعالى في محكم تنزيله الحكيم، مخاطبا نبيه الكريم، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “وما أرسلناك الا رحمة للعالمين”… صدق الله العظيم.
إني والله كلما تأملت هذه الآية الكريمة، التي تحكي عن ماهية هذا الدين العظيم، وتحدث عن جوهر رسالة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وحاولت أن أسقطها على واقعنا الذي نعيشه، أرى حروفها المزينة الرتيبة البليغة وقد فزعت من هول أيامنا، فأنظر الى آية من كتاب الله وقد لخصت رسالة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، أقارن سلوكنا اليوم بمضمون الآية، ثم أستجدي أيا من صيغ التعجب في اللغة وأحاول إلزامهن ليكن موضع الاستخدام في بياني هذا، وبصفتهن من الأسماء التي علمهن رب الخلائق لأبينا آدم، فيأبين ويشفقن….
الرحمة… لب رسالة سيد البشر، نبي الرحمة، رسول السلام، كم بدلنا وكم غيرنا من بعده، كلما وجهت وجهي شطر بقعة من عالمنا الإسلامي أرى أناسا وقد ألصقوا بالإسلام ما ليس فيه، أرى وحشية ما عرفناها عن رسولنا الحبيب عليه الصلاة والسلام، وما عرفناها عن اله الغر الميامين، ولا عن صحبه الأخيار المنتجبين، وأنا هنا لست في سياق الخوض في أمر السياسة، وأشهدكم إني أعوذ بالله من السياسة كما أعوذ به من الشيطان الرجيم فلا أدفع عن نظام معين او جماعة معينة، وأحسبني أرى بفضل الله ومن ثم شيخي أن زماننا هذا زمان فتنة، لكننا اليوم لنا وقفة، لنا وقفة حين يلصق بالإسلام ما ليس فيه، حين تؤكل الأكباد مع صيحات الله اكبر، حين تلاك القلوب مع شهادة ألا اله إلا الله، حين يقتل العلماء الثقات بتهمة الكفر، حين تكفر طوائف المسلمين برمتها بتهمة الابتداع…
ثلاثة عشر عاما مكية، والله هذه تصلح لأن تكون عنوان مرحلتنا هذه، ثلاثة عشر عاما في مكة والمسلمون والنبي الأعظم عليه الصلاة والسلام يسطرون أسمى معاني الدعوة إلى الله، أسمى معاني الرحمة، يعذبون ويقتلون ويجوعون والصبر هو عنوانهم، والدعوة لدين الله هي ديدنهم، حتى بعد الهجرة ومع بداية المرحلة المدنية تخرج قريش بتجارة بأموالهم التي استلبوها منهم، والمسلمون يسألون نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، يسألونه استرداد أموالهم من قافلة قريش، فتخرج جحافل المشركين من مكة تريد القتال، والنبي يعرض، يعرض عنه وهو يقول في نفسه أن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة حتى نزل أمر الله عز وجل “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله”….
إخوة الإيمان:
سأبدأ من بداية القصة علنا نهتدي ونعلم من أين أتينا…. وسأعطي مثالا لغير دين الإسلام حتى يتبين لنا الحق من الباطل، المسيحية اليوم تنقسم إلى عشرة طوائف متناحرة فيما بينها، بينما كانت في زمن المسيح عليه السلام أمة واحدة، عبث بها المغضوب عليهم وهم اليهود حتى قسموهم طوائف وأمما متصارعة، وأوجدوا لديهم مصطلح الهرطقة، فكل طائفة منهم تتهم الطائفة الأخرى بالهرطقة، تصارعت فيما بينها وقتل بعضهم بعضا وكل يدعي أن الجنة له وأن النار لخصومه، كل يدعي أن كنيسته هي التي على الحق، فهذا يدعو الى الأرثوذكسية وذاك إلى الكاثوليكية ثم الى النسطورية واخر يقاتل من أجل الانجيلية، الى آخر ذلك من المسميات، في بداية القرن الماضي وبعد أن فرغت أوروبا من الحرب على الكنيسة إبان الثورة الفرنسية قبل قرنين، أوجدت الماسونية العالمية ثلاثة مصطلحات جديدة تمثلت بالشيوعية والنازية والفاشية، بمقتضى هذه الحركات الثلاث قضى مئات الملايين من المسيحيين في حربين لا هوادة فيهما، الأمر مع العالم الإسلامي مطابق تماما من حيث الخطوات ولكنه متأخر من حيث التوقيت، فالأمر بقي عصيا على اليهودية مع وجود الخلافة الإسلامية، ليس لشكل الدولة او لطريقة حكمها، ولكن لوجود قوانين صارمة ورادعة لجرم التكفير، وأيضا لعامل مهم وهو عامل ارتباط عامة الناس بمرجعياتهم الدينية، انهارت الخلافة الإسلامية في اسطنبول بفعل يهود الدولما، ومن ثم بدأ المخطط المرسوم، في بداية الأمر بدأت المحاولات من قضية البدعة، وهي رديف الهرطقة لدى المسيحية، فمما كنا نسمعه مثلا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، والاستغفار بعد الصلاة جهرا فعلة تلزمها جلدة، وعدم ارتداء ثوب قصير خروج عن السنة، والجهر في تكبيرات العيد جنحة، ثم تطور الامر الى النيل من العلماء تكفيرا وتفسيقا، ليس ابتداء بالإمام أبي حامد الغزالي وليس انتهاءا بالامام البوطي عليهم رحمة الله جميعا، ثم تعاظم الأمر إلى تكفير طوائف من المسلمين برمتها، فهذا اباضي متزندق، وذاك صوفي قبوري، وأولئك إخوان فجرة، وهذا جعفري رافضي، وهؤلاء رجال دعوة أصحاب بدع، وعلى هذا المنوال حتى وصل الأمر حديثا بهم إلى تكفير بعضهم بعضا.
اليوم استبيحت دماء المسلمين، فهؤلاء قد امتهنوا التكفير، أنا والله ليست قضيتي مع هؤلاء الشباب المضلل، قضيتي ليس مع من يقتل، قضيتي مع من يبرر القتل والتكفير، قضيتي مع من يشرعه، متى كانت أمة الاسلام على هذه الشاكلة، متى؟….
متى كان القتل حتى مع الأعداء، ليس مع المسلمين، مع الأعداء فيه هذه الوحشية وهذا العدوان… الأصل في الإسلام يا إخوة الإيمان هو النهي عن القتل والقتال وجاء التصريح بهم فيما يخص أعداء الأمة استثناءا، يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين”، وهذا ما سماه علماء التفسير قتال البداءة، فمعنى الآية أن نقاتل من يبدأنا في القتال أو من يعتدي على أرضنا مع شرط عدم العدوان ان انتهى عن قتالنا او خرج من أرضنا، وهذا هو معنى العدوان الاول، أما المعنى الثاني للعدوان فقد جاء في الاية الكريمة “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، أي ان قاتلتم الذين يقاتلونكم من أعدائكم فلا تعتدوا في القتال، وهو ما كان يوصي به النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يقول “انطلقوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة، وأصلحوا وأحسنوا ان الله يحب المحسنين”… كل تلك الاحكام والنهي عن العدوان كان في قتال المشركين المعتدين، فما بالكم بدماء المسلمين…
استمعت منذ فترة إلى أحد منظري هذا الفكر على أحد الفضائيات، سئل الرجل عن حكم قتل النساء والأطفال وغير المقاتلين من الرجال أثناء تفجير شامل، فقال: حكم قتلهم جائز شرعا ونحتسبهم شهداء ونحتسب الأطفال طيورا من طيور الجنة”…. والله لا أدري من أين جاؤوا بهذا الدين.
استمعوا معي إخوة الإيمان إلى هذه الطائفة من خبر سيد البشر عليه الصلاة والسلام و آله وصحبه والتابعين لنتبين رحمة الإسلام، رحمة النبوة، رحمة خاتم الرسالات….
في يوم أحد وبعد تحول سير المعركة لصالح المشركين، وقد أصبح النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه في محنة ما بعدها محنة، كسرت ثناياه الشريفة، وشج وجهه، وهو يدعو ويقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون… يقاتلهم وقلبه عليهم، يقاتلهم وهو يكره ذنبهم، لا يكرههم، تسيل منه الدماء وهو يقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون…
لنا عبرة أيضا في المنافقين في المدينة، الرسول عليه الصلاة والسلام يعلمهم، ويعلم صنيعهم، وقادر عليهم، وهو يسيئون إليه ويقولون هو أذن حاشاه عليه الصلاة والسلام، ويقولون ليخرجن الأعز منها الأذل، فماذا صنع معهم؟ كان يستغفر الله لهم، حتى حينما نزل بيان الله عز وجل لم ينهه عن الاستغفار، لأنه يعلم أن قلبه المليء بالرحمة الإلهية لا يطيق، فقال “استغفر لهم او لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم”…
جاءت امرأة غامدية إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في مجلسه وبين صحبه فأقبلت حتى صارت أمامه ثم قالت: يا نبي الله أصبتُ حدا فأقمه علي. فطلب منها عليه الصلاة والسلام الإيضاح، فذكرت لهُ أنها زنت وأنها حبلى من الزنى:
جاءت إليه و نار الجوف تستعرُ
و دمعة العين لا تنفكّ تنهمرُ
جاءت إلى الرحمة المسداة في لهفٍ
في ساحة ا لأمن.. لا ذلٌ ولا خطرُ
الحدُّ يُدرءُ.. و الأحكام عادلةٌ
والذنب مغتفرٌ، و العرض مختفرُ
تقدمت و الضمير الحيُّ يشحذها
لجنّةٍ نحوها الأرواح تبتدرُ
واستجمعت تفضح الأسرار في أسفٍ
لعلّها في مقام العرض تستترُ
وهج الفضيحة أمرٌ يستهان به
فحرقة الجوف لا تبقي و لاتذرُ
فأقبلت و رسول الله في حِلَقٍ
من صحبه و فؤاد الدهر مفتخرُ
كأنه الشمسُ.. أو كالبدر مزدهرا
أستغفر الله.. ماذا الشمس و القمرُ؟
قالت له يا رسول الله معذرةً
ينوء ظهري بذنبٍ كيف يُغتفرُ!!
فجال عنها و أغضى عن مقالتها
رحمى..وللعفو في إعراضه صورُ
قالت وللصدق في إقرارها شجنٌ
والصمت يطبق والأحداث تُختصرُ
أصبت حدّاً فطهّر مهجةً فنيت
وشاهدي في الحشا، إن كُذب الخبرُ
دعني أجود بنفس لا قرار لها
فالنفس مذ ذاك لا تنفك تحتظرُ
حرارة الذنب في الوجدان لاعجةٌ
إني إلى الله جئت اليوم أعتذرُ
قال عودي.. وكوني للجنين تُقى
فللجنين حقوقٌ مالها وزرُ
فاسترجعت وانثنت شعثاء شاردةً
فهل لها فوق نار الوزر مُصطبرُ؟!
حتى إذا حان حينٌ و انقضى أجلٌ
و قد تقرح منها الخدّ والبصرُ
حلّ المخاض فهاجت كلّ هائجةٍ
مثل الأسير انتشى و القيدُ ينكسرُ
طوت عليه لفاف البين وانطلقت
فروحها للقاء الطهر تستعرُ
و أقبلت.. يارسول الله ذا أجلي
طال العناء و كسري ليس ينجبرُ
فقال قولة إشفاقٍ و مرحمةٍ
و القلب منكسرٌ، و الدمع ينهمرُ
غذّي الوليد إلى سنّ الفطام فقد
جرت له بالحقوق الآيُ و السورُ
جاءت به ورغيف الخبز في يده
وليس يعلم ما الدنيا و ما القدرُ !!
قالت فديت رسول الله ذا أجلي
قد ملّني الصبر،والعقبى لمن صبروا
فقال من يكفل المولود من سعةٍ
أنا الرفيق له.. يا سعد من ظفروا!!
وشذّرتها شظى الأحجار فالتجأت
وفي تألمها عتقٌ و مطّهرُ..
واستبشرت بعبير التوب واغتسلت
كما ينقي صلاد الصخرة المطر
وقال فيها رسول الخير قولته
تابت و توبتها للناس معتبر
لو وزّعت بين أهل النخل قاطبةً
كانت لهم دون بأس الله مُدّثر
جاءته زانية معترفة بذنبها على مرأى من الخلائق، وهو يعرض ويؤجل، ويقول اذهبي وضعي، ثم اذهبي وأرضعي، عليه الصلاة والسلام وهو الذي كان يقول “ادرؤوا الحدود بالشبهات ” تأملوا اخوة الايمان وقارنوا مع ما نعيشه اليوم.
وفي الحديث المتفق عليه، عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!” قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال:”أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا” فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني ما أسلمت حتى يومئذٍ.
كما روي عن المسيح عليه السلام انه رأى رجلا يزني، فصاح به أتزني؟ قال والله ما زنيت، قال صدقت يمينك وكذبت عيناي. صدقت يمينك وكذبت عيناي.
ذكر عن الإمام الرباني والعالم الجليل بديع الزمان سعيد النورسي انه كان يجلس على دكة في تأمل طويل وبدت عليه علامات التأثر.. فلما سري عنه سأله احد تلاميذه قائلا… يا إمام بم كنت تفكر؟ فقال كنت أخاطب ربي في سري: أقول له يارب لو تكرمت ووافقت وأذنت: أن تدخلني أنا النار وان تخلدني فيها مقابل إن يعبدك كل عبادك من البشر وان يحبوك، وأن يجلوك وأن يقدروك وأن يوحدوك..
إخوة الإيمان هذه هي رحمة دين الله، هذه هي لياقة خاتم الرسالات، هكذا تكون الدعوة لدين الله…
نحن اليوم مدعون لنلهج الى الله بالدعاء ليهديهم طريقه، ويريهم وإيانا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، ويرينا واياهم الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وليخفف عن أمة الإسلام ما هي فيه، إنه سميع مجيب الدعاء…
محمد حسني الشريف
مسجد دار الإيمان