الجمعة , نوفمبر 22 2024

مخالفة النفس تورث البصائر

قال تعالى “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها”. “البصائر” جمع بصيرة، والرؤية تكون بالبصر وتكون بالبصيرة، أما الرؤيا فهي التي يراها الإنسان في منامه أو تُرى له.

هذه البصائر هي نعمة ومنّة من الله عز وجل. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والآية “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار”، فلا يرى بعين الرأس، فهي للبصر، أما عين القلب فهي للبصيرة، ومن هنا نفهم الفرق بين العمى والعمه، فالعمى هو عمى العين، والعمه “يعمهون” هو عمى القلب.

الله تعالى لا تدركه الأبصار لكن يمكن أن تدركه البصائر، فقد ترى عظمته وجماله وبديع خلقه وفضله بعين بصيرتك، هي سنن الله وآياته في كونه، لا يراها إلا ذوو البصيرة، أما أصحاب البصر فلا يرون شئيا فهم في هذه المسألة كالأنعام بل هم أضل.

كيف نحيي هذه البصيرة؟

من الناس من لا يملك بصيرة، فلا يرى أبعد من أنفه! وهناك من الناس من تجد آفاقه بعيدة في تفكيره وقراراته وتصرفاته وأقواله وأفعاله، تجد عنده حكمة، ولا يكتفي بالنظر بعين الرأس فينظر بعين قلبه، فتجده محبوبا، وتجد قوله عند الناس ينزل ويقع بمكان، وعندما يُسأل عن الشيء يعطيه مداه البعيد… حتى عند أرباب المهن، تجد معلما ذو خبرة بسيطة يعلم الطلاب فيرفق في تعليمهم وإرشادهم وتربيتهم وإيصال المعلومة لهم، وفي نهاية العام تجد له نتائج مبهرة في عطائه…. وتجد آخر بخبرة طويلة ولكن مخرجاته سيئة، والشيء نفسه تجده عند المهندس أو المقاول …. هي البصائر.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ (الفرائض)، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ (النوافل)، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ (البصائر) كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.

أن تسمع بالله، وتبصر بالله، وتعرف بالله،…

أما الباب الأكبر في تنشيط البصيرة فهو مخالفة النفس، انظروا إلى سيدنا عبد الرحمن قدس الله سره كم هو عارف بالله، نجد في جزئيات كلامه معرفة كبيرة في سنن الله وفهم كتاب الله، يقول: وخالف النفس والزم باب رأفته عساه يسديك ما ترجو من النعم، نعمة البصائر.

تروى قصة عن سيدنا رضي الله عنه، بغض النظر عن صحتها أو عمن هي، بلغه أن يهوديا في أطراف المدينة يرى من وراء الحائط، فذهب إليه وطرق بابه، فد عليه من الداخل: ماذا تريد يا عمر؟ قال بلغني أنك ترى من وراء الحائط، ما الذي بلغك هذا، قال: ما وصلت إلى هذا إلا بمخالفة النفس، إن أرادت الراحة أتعبتها، وإن أرادت التعب أرحتها، وإن طلبت التمر أعطيتها اللبن، وإن طلبت اللبن أعطيتها التمر، … فقال له: لم لا تسلم؟ فقال: أرد عليك لاحقا، وتركه سيدنا عمر في حينها، ثم بلغه بعد ثلاثة أيام أنه أسلم، فأرسل إليه فسأله عن إسلامه، فقال: عرضت على نفسي الإسلام فأبت، فخالفتها فأسلمت.

قال تعالى “من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا”، سأل ابن أم مكتوم رسول الله ﷺ عن حاله، وهو أعمى، فنزلت “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.

وقال تعالى في آخر قصة سيدنا يوسف داعيا سيدنا محمد ﷺ “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”، في هذا الأمر سيدنا الفضيل بن عياض: الدعوة على بصيرة تحتاج إلى أمرين: إخلاص النية لله، وحسن التصرف، وهذه المعادلة كما قلنا تصلح للدعوة وتصلح لأعمال الدنيا.

مشكلتنا اليوم أن الدعوة، وحتى جهاد البعض، تقوم على غير بصيرة، دعوة بالبصر والعقل بلا بصيرة! قد تكون النية صحيحة لكن التصرف خاطئ، وقد يكون المفهوم صحيحا لكن النية غير سليمة! ولذلك تجد النتيجة في كثير من الأحيان هي مصداق قول الله تعالى “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا”.

المطلوب إخلاص وحسن تصرف، من خلال البصيرة لا من خلال البصر.