كان بعض السلاطين عبر الزمان يغرق بالذهب والديباج والحدائق والأموال، ويمنعها عن أهلها والمستفيدين منها، فأراد هؤلاء العلماء (علماء السلاطين) أن يواسوا الفقراء، ويجعلوهم يسكتون على هذا الواقع، فيقولون لهم: لكم في رسول الله ﷺ أسوة، فقد كان جائعا وفقيرا! وحاشاه ﷺ، لم يكن كذلك! كان غنيا وفقيرا في آن، عزيزا غنيا بين الأغنياء، مسكينا متذللا بين الفقراء، وكل ما يأتيه من مال، وقد جاءه الكثير، كان يصرفه في موارده، وهنا تأتي بعض الروايات فتتحدث عن فقره ﷺ، متى كان يكون فقيرا؟ يمرّ يوم يجوع فيه ﷺ هو وبعض الصحابة، لكن هذا لا يعني أنه كان فقيرا أو ذليلا، صحيح أنه كان يقول: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، لكن “المسكين” لا تعني الفقر، بل التواضع والانكسار على باب الله…
شواهد عظيمة توضح أنه كان ﷺ غنيا، فقد ترك ﷺ حوائط وبساتين، فسئل أبو بكر عنها فقال: قال ﷺ إننا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة. أحد اليهود الذي أسلم وتوفي، ترك وصية جعل فيها ما ملك لرسول الله ﷺ يتصرف فيه كيف يشاء، سبعة بساتين آلت لرسول الله ﷺ، وتوفي ﷺ وعنده منها، وكذلك أرض فدك…. من تركته ﷺ.
هذا الكلام ضروري في زماننا لتوضيح الحقائق من جهة، ولتغيير الفهم السلبي الواقع في زماننا، الواقع الذي يراد لنا فيه أن نبقى متسولين، في زمانٍ العالم فيه كما ترون، هذه دعاية مغرضة، أنه ﷺ مات جائعا وفقيرا وذليلا، من أشاعها لا يريد خيرا بهذه الأمة، لقد كان ﷺ غنيا.
في غزوة حنين، كان أبو سفيان برفقة رسول الله ﷺ، فنظر إلى واد ممتلئ بالنعم، فقال: يا رسول الله، أهذه لك؟ قال: نعم، أوأعجبتك! قال، نعم، قال: هي لك. مَن ملك هذه الإمكانات في زماننا لا يعد مليونيرا، بل مليارديرا! جاء أبو سفيان مرة لرسول الله ﷺ يريد العطية، فأعطاه مئة ناقة! هل هذا فقير؟ قال: ولولدي يزيد؟ قال: وليزيد مثله، قال: ولولدي معاوية؟ قال: ولمعاوية مثله. كيف لا وقد قال له المولى عز وجل: “ووجدك عائلا فأغنى” لماذا أغناه؟ “فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر…” لم يغنه ليكنز المال لشخصه، “وأما بنعمة ربك فحدث”، كيف يحدث؟ بالإنفاق، لا بالكلام.
حجرات نسائه ﷺ ، تُركت هذا الحجرات تركة لزوجاته من بعده، حتى أن عائشة رضي الله عنها باعت حجرتها في زمن معاوية في زمن خلافته بمئتي ألف دينار، دفع ثمنها ليضمها للمسجد، هل هذا وضع شخص فقير؟ ونزلت آيات تتلى في وضع بيوت النبي ص “يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن…” إذا دعيتم للطعام عند رسول الله، إذاً كانت تقام ولائم للمسلمين في بيته، وكانت زوجاته يُسألن العطايا، فهل هذه بيوت فقراء أم بيوت أغنياء عامرة؟
إذا كان رسول الله ﷺ فقيرا فأين الصحابة الأغنياء من حوله؟ هل كانوا ليتركوه على فقره وحاجته؟
وكان من الصحابة من خرج عن ماله عدة مرات، مثل سيدنا عثمان، وسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وسيدنا أبو بكر….
في حجة الوداع يروى أنه ﷺ نحر 63 ناقة بعدد سني عمره ﷺ، وقيل مائة، وفي الحديبية سبعين ناقة، وفي عمرة القضاء ستين ناقة… هل هذا فقير؟
وكان يتعامل مع القادر على العمل بأن يعطيه ثلاثة دراهم، درهم يشتري به حبلا، ودرهم يشتري به فأسا، ودرهم يشتري به طعاما، ويقول له: اذهب واحتطب.
وينفق على الأرملة وأيتامها، ليخرجوا جاهزين لبناء الدولة…
الشاهد فيما نقول أن البناء الحضاري الحديث للدولة لا ننظر فيه إلى التاريخ بل إلى الواقع، كانت الأموال تأتي الدولة من الغنائم والفيء، وهذا غير متاح الآن، فلا نأتي كذاك الرجل الذي يريد أن يحل الأزمة في مصر من خلال الغزو (يعني مثلا تغزو مصر السودان وتنهب أموالها….)!!
مفهومنا للاقتصاد والعمل هو من خلال فهمه بواقع اليوم، مع المحافظة على ثوابتنا، وبالتالي لسنا بحاجة إلى إشاعة أجواء التسول، وإراقة ماء الوجه أمام الدول والشعوب (على مستوى الفرد والدولة). نحن بحاجة إلى العلم في أرقى الجامعات، وفي أحسن العلوم، وأن نكون طموحين على مستوى الشباب والرجال العاملين وطلبة العلم، لنكون بمستوى الشعوب الأخرى، ولا نبقى في ذيل القافلة، … وانتبهوا أن هذا الكلام هو كلام في العقيدة، “هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها” لا بد من عمارة الأرض، لا بما يليق بزمن عمر بن الخطاب، فلا تنتظر الفيء والغنائم، ولكن بالإقبال على الصناعة والزراعة التجارة والعلوم … سلاحنا من أعدائنا، وكذلك لباسنا وغذاؤنا…. نحن أمة متسولة! لا بد من طموح في السباق، وهذه عقيدة “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله…” “والله خير الرازقين”.
وعلى الشباب أن يفهموا بأن الكد والعمل لا يقبل أن يكون بمستوى الطموح الشخصي، فلا يكفي أن تسعى لوظيفة تؤمن فيها قوتك وقوت عيالك فقط، انظر إلى أمتك وواقعها، نحن بحاجة إلى حالة بناء شبيهة بالشعوب الناجحة، شعوب تكد وتعمل وتنجح، والله يعطي كل من يعمل.
في أحد بيوت العزاء تكلم أحدهم فذمّ حالة البناء الحاصلة للعمران والمصانع والشركات…. يريد من الناس أن يكونوا متسولين شحاذين! والناس الحضور يوافقونه على الحال! وتشاع بكل غباء ودس مثل هذه الثقافة ليظل المسلمون في حالة التردي! أبدا!! “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.
وانظروا إلى النموذج الشائع عن أئمة المساجد، لا بد أن يكون شحاذا ومتسولا يشكوا للمصلين، ويريق ماء وجهه أمام الناس… لا بد أيها الإخوة من الطموح العالي والنجاح.
وانظروا إلى حال الموظفين عموما عندما يأتي يوم عطلة، أو ينزل الثلج، يصبح اليوم وكأنه عيد! يذهب إلى عمله وينتظر انتهاءه، لماذا؟! لماذا نعمل بِكُرْهٍ للعمل، وهو مقدس وعبادة؟ انظروا إلى الرجل الذي يصوم ويقوم ويبيت في المسجد، فقال ﷺ: من يطعمه ومن يقوم على أهله؟ قالوا: له أخ، قال: أخوه خير منه. ديننا يقدس العمل والنجاح. لا تقيسوا مستوى المعيشة والتحصيل كما كانت في زمن الرسول ﷺ والصحابة! ومع ذلك، في وقتهم كانوا ينظرون إلى فارس الروم كيف يعملون فيقلدوهم. ونحن اليوم نريد أن ننظر إلى العالم كيف يعيش، ونقلده في علمه ومعرفته وعمله وتعبه وسهره… أما أن لا نتعلم، ولا نعمل، ونبقى في حالة الكسل هذه، نعيش من أجل الأكل والشرب، فهذه ليست حياة! “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، “واليد العليا خير من اليد السفلى”. ماذا يعني ثمان ساعات عمل يومية؟! عند الضرورة لتكن ستة عشر ساعة! ولماذا مهنة واحدة، فلتكن اثنتان! هذا مطلوب لتنهض الأمة من الحال الذي تعيش فيه!
نحن في حالة من اللابناء واللاعمل واللاإنتاج، بل في استهلاك، والبعض لا يجد الاستهلاك.
أحببت أن أوضح أن رسول الله ﷺ لم يكن فقيرا ولا جائعا ولا ذليلا، بل كان جوعه اختياري، عَرَضَ الله عليه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا.
بهذا الفهم والعمل بنى رسول الله ﷺ أمة، والسهم الذي أطلقه في المدينة بقي منطلقا مائتي سنة.