الغنى والقوة والزهد : من الواضح وجود فهم خاطئ عند كثير من المسلمين عن المال والتعاطي معه، حتى صارت هذه الأمة أمة استهلاك، تحرق المال حرقا، ولا تنتج أدوات الحياة، وهو أحد أهم أسباب تراجعنا. فمن كان عنده أسباب نهضة وحضارة فما هذا هو حاله، فهي لا تُصنع بالتريليونات التي تجمعها وتكدسها، بل ينطبق عليها قول الله “جمع فأوعى”، وهو وصف ذميم.
وفي المقابل عند الحديث عن الزهد، يظن البعض أن جمع المال هو مذمة، ويظن أن الإسلام يطلب منك أن تكون فقيرا! وهذا يكون عند من يعتقد أن معنى الزهد أن تكون فقيرا أو شحاذا أو متسولا فتريق ماء وجهك أمام الصغير والكبير!
والبخل هو أيضا مذمة “وأحضرت الأنفس الشح”، لكن هذا أيضا لا يعني الإسراف الذي هو أيضا صفة ذميمة “كلوا واشربوا ولا تسرفوا”…. وهكذا فكلا طرفي القصد ذميم.
يظن البعض أن رسول الله ﷺ كان فقيرا! بمقاييس زمانه كان ﷺ مليونيرا، وكان يختار الفقر طوعا. هذه هي الشخصية التي ينبغي أن تقتدى من أجل التخلص من كافة الصفات الذميمة التي ذكرنا. فرسول الله ﷺ ليس بخيلا ولا مسرفا، ولا هو ممن جمع فأوعى، ولا هو فقير،… تركيبة عجيبة! لكنها تصنع أمة وحضارة.
لو تتبعنا ما كان يأتيه ﷺ من خُمس الغنائم لقلنا أنه كان مليونيرا، وهكذا كان عدد كبير من الصحابة.
وأغلب أئمة آل البيت، أجدادي الأوائل والأواخر، أغلبهم كانوا أغنياء وفقراء في آن واحد، كما الرسول ﷺ. عندما ذبح ﷺ الشاة فسأل السيدة عائشة: ماذا بقي منها؟ قالت بقي الكتف، قال: كلها بقي إلا الكتف.
بقيَّتُ الشخصيات الأخرى هي شخصيات هدّامة، مع استثناء الفقير، مع تقديري للفقير، فأعلم أن في المجتمع فقراء هم فعلا فقراء ألزمتهم الحاجة، وهي فئة موجودة في كل مجتمع، ونسأل الله الفرج لها، وأن يغنيهم من فضله، هؤلاء الذين قدر عليهم رزقهم وما استطاعوا تحصيل الرزق…
والدعوة إلى الزهد ليست دعوة إلى الفقر، (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف). وما يحصل لأمتنا اليوم أنها فقيرة وهي غنية لكن بطريقة أخرى! وهي أنها مسرفة وغير منتجة ففقدت القوة، بل هي ضعيفة ومستضعفة، ضحكت من جهلها الأمم، بالرغم من التريليونات، نعم!
رسول الله ﷺ تأتيه الأموال لكنه لا يبقي منها شيئا، أين ينفقها؟ هل ينفقها في الليالي الحمراء، والطائرات الخاصة، والقصور الباذخة، والغواني، والمعازف…. والولائم التي تقذف في الحاويات بالأطنان وفي المسلمين جياع…. وكله فيما يغضب الله، والعدو يعد لنا العدة؟! كلا، بل ينفقها ويستثمرها في الرجال الذين هم عدة الفتح.
يأتيه المال فينفقه ولا يبقي منه شيئا، ولربما جاع بعدها بأيام، فيفهم البعض من الحديث المشهور الذي فيه أنه خرج فلقي سيدنا أبا بكر، وسأله عن الذي أخرجه، ثم لقي سيدنا عمر فسأله،…. الحديث. فظن الناس في زماننا أن رسول الله ﷺ كان على الدوام لا يجد ما يأكل! هذه صورة مغلوطة، فقد كان يختار الفقر اختيارا، يقول (عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ).
هناك من الأشخاص من راتبه 20 ألف دينار في الشهر، وهناك من راتبه 10 آلاف، …. وهناك 300 …. ومع بعض الاستثناءات، لكن في المجمل أقول: كلهم مستورون في معيشتهم، ولكن المصيبة الكبرى هي في أن هناك من الناس من يكسب 20 ألفا ومع ذلك تجده مع ثلث الشهر التالي بدأ بالاستدانة. وفي المقابل هناك من الناس من راتبه 1000 دينار ولكنه مستور الحال ومكتفٍ.
بعض الناس المسرفين يظن أنه كلما أتاه دخل إضافي فمطلوب منه أن يرخي الأحزمة قليلا، وإن زاد دخله قليلا يرخيه زيادة، ومع الزيادة يرخيه تماما، …. وهكذا دون توقف في البسط في الإنفاق. بعض الحكماء قالوا: لأن يبيت أولادك جياعا ولهم مال خير من أن يبيتوا شباعا ولا مال لهم.
المطلوب أن تدخر، ولا تنطبق عليك مقولة (جمع فأوعى)، أن تدخر لغرض، ولا يعني هذا البخل. ولا يقبل أن تعتقد أنه يكفيك 500 دينار مثلا فبالتالي يكون أقصى طموحك العمل لتحصيل هذا المبلغ! هذا هو الذي جعلنا في مؤخرة الركب، لا بد أن تدخر وتنتج، فالمسلم إنسان منتج، ليس منتجا لنفسه ولأسرته، بل منتجا لمجتمعه، كن قويا. وهذا هو فعل سيدنا رسول الله ﷺ الذي يقول: ما يسرني أن لي أُحُداً ذهبا، وتمضي عليَّ فوق ثلاث، ويبقى عندي منه شيئا، إلا درهما أو دينارا أرصده لدَيْن عَلَيّ. أين ستذهب بكل هذا المال يا رسول الله؟ وَضَعَه في مكانه في حالة البناء المجتمعي. هذا يعطينا فكرة عن حجم الكارثة التي تعيشها شعوبنا ودولنا الغنية المسرفة المترفة التائهة، التي تعتقد أن هذا المال أتانا لنأكل ونشرب ونتمتع به!
والشيء بالشيء يُذكر، في ظل الحديث عن موجة البرد والثلج، ما المشكلة لو أغلقت الطرقات يوما أو يومين، ما المشكلة؟ ما المشكلة لو جعتُ يوما أو يومين؟ وأتحدى لو وجدتم بيتا ينقطع منه الطعام يوما أو يومين، فقيرا كان أم غنيا، حتى ولو وصلت إلى أكل الخبز اليابس مع الماء والسكر! ما من بيت يخلو من بقايا حبات الزبيب أو التمر أو العدس أو الفاصولياء…. حالة هلع وكأننا ذاهبون إلى كارثة! دع الأولاد يجوعون مرة ليشعروا بالنعمة التي يعيشون فيها، وعند غياب الأزمات نعتقد أن هذا الراتب الذي يأتينا لا بد من صرفه ومحقه تماما!
قرأت خبرا عن ولد وجد مالا وَرَقِيا مكنوزا ملفوفا، وقد اهترأ، يبدو أنه لعجوز مات عنه، هذا الرجل هو ممن (جمع فأوعى)، لا ينبغي للمال أن يكتنز، لا بدل أن يدور في عجلة الإنتاج. عندما سئل رسول الله ﷺ عن مال اليتيم أعليه زكاة، قال: عليه زكاة، لماذا؟ لا بد من تشغيل هذا المال حتى لا تأكله الزكاة. المسألة اجتماعية اقتصادية.
يقول أحد الصالحين: كنا نعدُّ أن تأكل كلما تشتهي من الإسراف. لا بد من تحريك المال والإنتاج.
بيوت ساداتنا في الخليل، سيدنا خير الدين، وسيدنا عبد الرحمن (لمن زارها)، هي سرايا، أقوياء وفقراء. سيدنا خير الدين عنده هذا البيت وهذا دليل أنه كان قويا، لكن عندما أرادوا تكفينه لم يجدوا ثمن الكفن، غني وفقير، كما الرسول ﷺ، مئات المرات خرج عن كل ماله.
تقرؤون في سيرة ساداتنا رجال السند، وتقرؤون كل واحد منهم كم مرة خرج عن ماله، يروى: خرج عن ماله 3 مرات، 6 مرات، … يدخره ثم يصرفه في سبيل الله وبناء المجتمع.
قلة المال تولد الفقر والذل والاقتصاد الجمعي الضعيف. القوة ليست في المال، فههو المال لم يغني عنهم من الله شيئا. الإنتاج والعمل هو القوة، وهذا هو الزهد، فليس الزهد أن تكون فقيرا، بل أن تكون غنيا ومالك في يدك لا في قلبك.