أهل الخدمة وأهل المحبة : عندما كلم الله سيدنا موسى عليه السلام، أراد النبي الكليم الذهاب إلى مذهب أبعد فقال: “رب أرني أنظر إليك”، (طالما أن التكليم قد حصل)، “قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً”، تجلٍّ من تجليات الحق سبحانه وتعالى على الجبل، مم؟ ذهب في غيبة من أحد تجليات الله على الجبل خر موسى صعقا! لا بسبب صاعقة أصابته ولا لسقوط الجبل فوقه! هي جذبة وتجلٍّ!
هناك جذبات لله عز وجل على بعض من خلقه تجعلهم يغيبون، إن كانت جذبة حبٍّ يدخل البعض في حالة سكر وغيبة وهباء.
والصالحون من المسلمين صنفان:
صنف استعملهم الله في خدمة دينه، وهم أهل صحو، كل في صحوه بدرجته حسب المقام الذي تقتضيه خدمته لدينه، وأغلب الأنبياء والصالحين من هؤلاء.
وهناك صنف آخر اختصهم الله بمحبته، أهل محبته، دخلت محبة الله عز وجل أفئدتهم وجذبتهم جذبة من جذبات الله شبيهة بالتي حصلت لسيدنا موسى عليه السلام “فخر موسى صعقا”، وهؤلاء الناس، حسب فيضان الحب في قلوبهم تكون أحوالهم، “والذين آمنوا أشد حبا لله”.
وهذا الحب يشترك فيه كل أهل الله، أهل الخدمة وأهل المحبة، يقول رسول الله ﷺ “لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما”، فالحب على درجات، فمنهم من يكون صحوا في حبه، ومنهم من يكون غائبا أو سكرانا في حبه. وأهل المحبة صنفان:
صنف يغلب عليهم الصحو، لذلك تجدهم ينضبطون بضوابط الشرع لأنه يستخدم الصحو قدر الاستطاعة، لكنهم يذهبون أحيانا في السكر والغيبة. حالة فيضان الحب التي عندهم جعلتهم يتيهون عن شأن الناس والاهتمام بها، فانشغلوا بأحوال محبتهم لله ورسول الله.
وصنف آخر من أهل المحبة كانت جذباتهم قوية وعنيفة، ودخلوا في سكر وغيبوبة وفناء وهباء، لا صحو عندهم حتى في التكاليف! والقاعدة الشرعية تقول: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. هؤلاء جاءت الموجة والتيار فوق احتمالهم، ليس فقط جعلتهم ينسلخون عن الناس، بل جعلتهم ينسلخون عن ذواتهم، لذلك تجده رث الثياب، لا يلتفت لطعامه، ليس عنده قوت يومه، في الشام يقولون عنه “أجذب”.
أهل المحبة بصنفيهم، عند لقائهم، وهم مثال أبدال أهل الشام في حواضر الشام وبيروت والقدس وعمان، حكى عنهم الرسول ﷺ “بهم تقوم الأرض، وبهم تمطرون، وبهم تنتصرون”، في أحد المرات في لقاء أحد أهل الصنف الثاني أهل الغيبة (طلب خمسين ليرة لطعام الغداء، فتعرض عليه مائة فيأبى إلا خمسين..) هذا مثالهم، قلت له: أيمكن أن أكون مثلك؟ فأجاب: لا تخلط، نحن شيء وأنتم شيء آخر، فسألته لماذا؟ فقال: لن تستطيع التجانس مع الناس، ولن يفهموا كلامك!
والسؤال المطروح عن أهل المحبة، لماذا لا ينشغلوا بأحوال المسلمين؟ ومن أفضل هم أم من ينشغل بأحوال المسلمين؟ بالطبع المسألة ليست مسألة مفاضلة، فالمفاضلة عند الله عز وجل، لكن المسألة هي تنوع، لو كان كل الصالحين على الشاكلة الأولى (أهل خدمة والاستعمال) فبم ننتصر وبم تقوم الأرض؟ ولو كان كل المسلمين الصالحين على شاكلة أهل المحبة فمن يقوم على خدمة الإسلام والمسلمين؟ فهو إذاً تنوع وظيفي، “كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام فلا نؤتين من قبله”.
أما ظهورهم، فأهل الخدمة ظاهرون معروفون، وأما أهل المحبة فغير ظاهرين، لأن جزءا منهم معطَّل وغائب، والخلط بين هؤلاء وبين أحوال العصاة له حكمة، ففرزهم يعني كشف العصاة، وهذا ينافي صفة من صفات الله في عقيدتنا هي صفة الستر، فالله سِتِّير، فخلط هؤلاء مع العصاة ليستر على العصاة.
التقيت مرة بأحد أهل المحبة من أهل الصحو وسألته عن التصوف والخلط الذي حصل فيه، فقال: لا تفرز بين صالح وطالح، فكل من له فهمٌ فهو على وظيفة، حتى وإن كان ظاهره يخالف ما تعتقد.
والشاهد فيما نقول هو نصيحة: كلَّ مَنْ رأيتَ فالخضر اعتقِد، وإذا كنت معصوما، وليس فينا أحد معصوم، فصنِّف!