ها هو ذا شهر شعبان يمر بنا، يوقظنا بين يدي شهر رمضان المبارك، يُقبِل والعالمُ ينتشر فيه الهرج الذي أنبأ عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم منبها إلى أنه علامة من علامات قرب قيام الساعة. والهرج هو الفتن التي تَبعث على الظلم وقتل البرآء. ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يهرعوا أيام الهرج إلى العبادة والإكثار من ذكر الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم (عبادة في الهرج، أو العبادة في الهرج كهجرة إليّ)، وقد قال ربنا تعالى (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ).
مناسبات شتى تذكرنا بالله، وتدعونا إلى الاصطلاح مع الله وإلى الالتجاء صباح مساء إلى ذكر الله، فهل من مستجيب لهذا الذي يدعونا الله إليه؟!
أحسب أن العالم الإسلامي لا يزال يغط في رُقاده، وأحسب أننا اليوم مظهرٌ لقول الله عز وجل (ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ، مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ). تلك هي حال جل المسلمين وحكامهم.
ولعلكم اليوم تدركون أكثر من أي وقت مضى أن المسلمين وقعوا في الفخ الذي نُصب لهم، وهو تحويل الصراع من صراع مع الصهاينة إلى صراع فيما بينهم. تحوَّل هذا من خلال عمل دولي مضنٍ دُبِّر بليل، وقد رفع الصهاينة شعار “دعهم يقتلون بعضهم”، غابت أدوات الصراع مع الصهاينة في السياسة والإعلام والثقافة والحرب والوجدان، وحلَّ بديلا عنهما كل ما ترون من جبهات دموية بين المسلمين، ولن يُسمح لأحد أن ينتصر في أي جبهة، وكنا جميعا للأسف وقودا لهذه الحروب المجنونة المدمرة للأوطان والإنسان، أما الصهاينة فهم في أفضل أحوالهم، لا يبيعون فرحتهم لأحد. كلكم يعلم ما يفعله الصهاينة من تقسيم وتدنيس، والأمر عندنا لا يعني أحدا، فالمعركة ليست مع الصهاينة بل فيما بيننا للأسف. فأين هم المسلمون اليوم؟! أين هم من العودة إلى فطرتهم الإيمانية، ومن التحرر من عوارض التيه والضلال، أين هم من (وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)؟!
رُبَّ ضارة نافعة، وهذه المصائب هي من النعم الباطنة الخفية، هنالك بقايا من الإيمان بالله، موجودة وكامنة في طوايا نفوس المؤمنين بحمد الله، ولا نيأسُ من رَوْحِ الله. لعل هذه المصائب توقظ هذه البقايا من قادة وشعوب المسلمين إلى صراط الله، لعلهم يقفون أمام قول الله (بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ)، (إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ). ولكن أين هي الآذان التي تعي؟! وأين هي القلوب التي تستيقظ؟! إن المصيبة الأدهى أننا نرى أناساً من قادة أو مفكرين أو باحثين يقودهم هذا الخطر الذي يحدق بالعالم الإسلامي إلى أن يستسلموا لأعداء الله ومشاريع أعداء الله، ينبغي أن ينشغل المسلمون بقتل بعضهم! والتربية الإسلامية التي تخيف أعداء الله ينبغي أن تتحول إلى شعارات شكلية وإلى مناهج تقليدية! إلا أنَّ فينا من يقول (يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ”، ولكنهم لا يصغون إلى تتمة الآية “فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). هذا الذي نراه حولنا يجسد نقيض قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ، بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)، لكن في سبيل مَنْ يلقي الله الرعب في قلوب الكافرين؟! في سبيل المؤمنين الذين صدقوا الله وعادوا واصطلحوا معه وتابوا إليه، أما إذا آل أمر المسلمين إلى أن يكونوا تَبَعاً ذليلاً مَهِينا ًغبياً للذين يعلنون الحرب على الله وعلى إسلامه، ففي سبيل مَنْ يُلقي الرعبَ في قلوب الكافرين؟!
سيظل هذا العالم عامرا إلى أن يأتي الميقات المحدد في علم الله بقيام الساعة، وإلى أن يأتي ذلك الميقات لا بد للكون أن يظل مستمرا وعامرا، فإن كان المسلمون صادقين في ارتباطهم بالله جعل الله القيادة إليهم، وإن كانوا متخاذلين كاذبين ساذجين منافقين، مسلمين في الظاهر… فإن الله يجعل القيادة في أيدي أعدائنا.
ومع هذا لستُ يائساً من رحمة الله وفضله، ولا يجوز لنا أن نستيئس، وأعلم أن في عباد الله اليوم من الصالحين والأتقياء من يُعيدون سيرة سلف هذه الأمة، وأنا أعلم أن في المسلمين من وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الواحدَ منهم بالأشعث الأغبر الذي إن أقسم على الله أبر قسمه، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم في الوقت ذاته أجاب زينب عندما سألته (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث). ألا ترون أن الخبث قد كثر! ومع ذلك لربما أكرم الله هذه الأمة وشفع لطالحيها بصالحيها، ولربما أكرم الله هذه الأمة فغيَّر سُنَّة من سننه رحمة بعباده ورحمة بضعف الصالحين من عباده، كلُّ هذا وارد، ولكن ينبغي أن نتقي اليأس، وأن نتقي مكر الله عز وجل.
أقولها مرة أخرى، مما لا شك فيه أن عامة المسلمين اليوم ينتشر فيهم الإقبال على الله عز وجل، وكثيرون منهم كانوا بالأمس فسقة تائهين أراهم اليوم عائدين تائبين إلى الله، ولعل هذه الفئة تتكاثر بحمد الله عز وجل.