الجمعة , نوفمبر 22 2024

طاعة ومحبة الله ورسوله

من البدهيات أن الإسلام ينهض على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم (أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم) (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، فقد قرنت طاعة الله بطاعة رسوله.

والسؤال هنا: كيف السبيل إلى هذه الطاعة في طريق معبدة ميسرة بلا أعباء تقطعه وشهوات ومغريات وأهواء تشده؟ اليقين العقلي وحده غير كاف لحمل الإنسان على طاعة الله ورسوله فيما أمر وفيما نهي عنه، لا بد مع يقين العقل من العاطفة والوجدان القلبي الملتهب الذي يؤيد قرار العقل ويقينه، والوجدان القلبي الملتهب إنما يتمثل في الحب، وهكذا يسوق العقل والقلب إلى الطاعة.

ونحن نتحدث عن طاعة رسول الله الذي هو مفتاح السير إلى طاعة الله، فمن تصور أن بوسعه أن يقفز فوق النظر إلى ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخيل أن بوسعه أن يطيع الله دون التوسط إلى ذلك بطاعة رسوله فهو مفتون، مأخوذ بفتنة شيطانية مهلكة وقاتلة. (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزِّل إليهم) فأنا للإنسان بدو تبيان أن يتبين ما قد طلب الله عز وجل منه.

وطاعة رسول الله كيف تتحقق؟ كثيرون هم الذين عرفوا نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغصت حلوقهم بالاعتراف بها، ولكن بقوا حيث هم، لم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في صغيرة ولا في كبيرة، فلا بد إذن من دعامة حب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ولعل أناسا في هذا العصر يقولون: ألا تزاحم محبة رسول الله محبة الله في القلب؟ وعندها أليس الأولى للقلب أن يكون وعاء لمحبة الله وحده؟ إن هذا الاستشكال صحيح لو أن محبة رسول الله جاءت مع محبة الله منافسة لها، ولكن لماذا ندرك أن علينا أن نحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ألأنه محمد بن عبد الله… لو كان لهذا السبب لكان حباً منافساً لحب الله (حباً مع الله)، ولكن الأمر ليس كذلك، محبة المؤمن لرسول الله فرع عن محبته لله. لما علمنا أن الله اصطفاه من خلقه، وأن الله صاغه على عينه، وأنه ميزه بالمزايا التي حدثنا عنها في كتابه المبين، ولما عملنا يقينا أن الله قد أحبه لا بد أن تسري محبتنا لله إلى محبة رسول الله، فهي محبة في سبيل الله وليست محبة مع الله، فبمحبة الله نحب رسوله، وبالقدر الذي تهيمن به محبة رسول الله على الفؤاد يستسهل الإنسان طاعة رسول الله، ويجد السبيل إلى طاعة رسول الله، فيما أمر ونهى وأوصى، يجده معبداً وقصيراً.

ويطرح البعض هذا التساؤل: هل لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سقف وحدّ؟، فإذا تجاوز هذا الحد يكون مبالغاً وشارداً ومشتطاً عن حدود ما أمر الله؟ الجواب نعلمه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس جميعا)، وفي رواية صحيحة أخرى (ونفسه التي بين جنبيه). من هو الذي يحب رسول الله أكثر من ماله وولده والناس أجمعين ونفسه التي بين جنبيه، ثم يكون بعد ذلك قد تجاوز السقف الذي أذن اللهبه، من؟!

ولعل في الناس من يسأل: لماذا طلب رسول الله من الناس أن يحبوه؟ والجواب أن رسول الله مكلف بأن يبلغ الناس كل ما يجب أن يعلموه ويطبقوه، ألم يقل الله (يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) وتبليغ الناس محبة رسول الله هو مما كلف بإبلاغ الناس إياه، كما كلفهم بمعرفة سائر الواجبات، ولو لم يقل ذلك لما بلَّغ.

إذا عرفنا هذا، فهل هناك تصور يمكن أن يقبله العقل أن في الناس اليوم من قد يبالغ في محبته لرسول الله؟! هل هناك من أصحاب رسول الله من بالغ في محبته لرسول الله فاستدعى ذلك أن ينبهه رسول الله؟ ألم يقل له عمر بن الخطاب (لأنت أحب الناس إلي يا رسول الله، إنك لأحب إلي من مالي وولدي، قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، قال: الآن وجبت يا عمر)، فإذا كان عمر في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الحد الذي ينبغي أن ينتهي إليه فمن هو الذي يمكن أن يكون في هذا العصر مبالغاً ومغالياً في محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحم الله القائل “فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة *** وليس فوقه إلا الله فافتهم”.

هل نحن في هذا العصر نعاني من مرض اسمه (فراغ القلب من حب رسول الله)، أم نعاني من مرض اسمه (فيضان القلب بمحبة رسول الله إلى درجة الغلو)؟ من هو هذا الإنسان الذي فرغ قلبه من حب الأغيار والشهوات والأهواء، ونسي الدنيا كلها، ونسي نفسه التي بين جنبيه فأصبحت محبة رسول الله في سبيل الله هي شغله الشاغل، من هو؟ ومع ذلك لو وجدنا إنسانا هذا هو شأنه، أينبغي أن نقول له إنك بالغت في حبك؟ المهم شيء واحد: أن يكون حبنا لرسول الله في سبيل الله، لا أن يكون حبا مع الله، أن يكون حبنا لرسول الله ثمرة من أجل ثمرات محبتنا لله.

وإذا كانت محبة العبد للرب لها سقف إذا تجاوزه كان مغالياً، إذن فمحبة الإنسان لرسول الله أيضا لها سقف إذا تجاوزه كان مبالغاً ومغالياً، ومع ذلك إذا تساءلنا عن سبب شرودنا عن صراط الله وعن وصايا رسول الله فالسبب هو فراغ أفئدتنا من محبة رسول الله، آمنا بنبوته عقلانيا وفرغت أفئدتنا منه حبا تماما، كما أننا آمنا بالله عقلانيا وفرغت أفئدتنا من محبة الله عز وجل وجدانيا، هذا هو سبب البلاء الأطم الذي نعاني منه. إن رأيت سباقا لاهثا على الدنيا كان من نتائجه هذا التشرذم والتفرق فسبب ذلك أن قلوبنا أصبحت تصفِّر فيها رياح الشهوات والأهواء بدلا من محبة الله.

لو رأيت إنسانا قد جن في حب المصطفى فأخذ يتصرف التصرفات الهوجاء التي لا تقف عند حد شريعته لنبهته، ولكن هذا ليس نتيجة لزيادة الحب ولكنه نتيجة لخلط داخل العقل. وكثر من أبناء جلدتنا من يتصورون الدواء داء والداء دواء فيحذرون من هذا الدواء.

أسأل الله عز وجل أن يطهر أفئدتنا من محبة الأغيار وأن يجعلها وعاء لا يفيض إلا بمحبة الله ومن ثم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.