إنكم لتقرؤون كتاب الله تعالى، قلَّت هذه القراءة أو كثرت، فما يتصور ولا يتقبل عقل إنسان أن ثمة مسلما، مقطوع الصلة عن كتاب الله وخطابه له، لا يميز بين آية من كتاب أو حديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حكمة مأثورة من كلام بعض الصالحين!
وقد كان المسلمون إلى هذا العصر غذاؤهم الإيماني الأول كتاب الله تعالى، فإذا ضاقت منهم الصدور لكرب أو أسى أو حزن طاف بهم التجؤوا إلى كتاب الله فشَرَحَت آياته صدورهم، وإذا أصابتهم الحيرة تجاه أمر من أمور الدين أو الدنيا التجؤوا إلى كتاب الله تعالى فأخرجهم القرآن من حيرتهم، وارتقى بهم إلى صعيد الطمأنينة الراقية. وإذا شعر أحدهم أن بضاعته من العلم في دين الله ضعيفة رجع إلى المعين، معين علوم الشريعة كلها، ألا وهو كتاب الله تعالى. وإذا وجد أن روحانيته قد جفَّت، وأنه قد غدا بعيدا عن ذكر الله تعالى هرع إلى كتاب الله ليذكر الله من خلال التأمل في آيات الله وخطابه.
وقد ذكر العلماء الربانيون جميعاً أن أرقى نوع من أنواع الذكر تلاوة كتاب الله (وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً)، إلا أننا ننظر في هذا العصر فنجد أمورا تكاد تصل إلى درجة التناقض، ففي الوقت الذي يلاحظ أن كثيرين من الشباب ومن أفراد الجيل يقبلون على كتاب الله تلاوة وحفظا، في الوقت ذاته ننظر فنجد الكثرة الكاثرة من المسلمين قد انبتَّت علاقتهم بكتاب الله، أصبحوا غرباء عنه، وغدا هو غريبا عنهم، وهم مسلمون. وأنا لا أتحدث عن المسلمين الذين خلعوا ربقة الإسلام أو أولئك الذين أشهروا السلاح ضد دين الله من خَدَمِ الشرق أو الغرب وعملائهم المأجورين والمعروفين، ولكني أتحدث عن المسلمين الذين يعتزون بانتمائهم للإسلام، الذين يذعنون بأن الإسلام هو دين الله، وربما أقبلوا إلى المساجد يصلون، وربما كانوا يؤدون إجمالا وظائفهم الدينية التي كلفهم الله بها، ولكن إن تَتَبَّعْتَ حال أي منهم لا تجد أي علاقة قد بقيت بينه وبين كتاب الله. التجار وأصحاب الوظائف والعمال، خنقتهم التجارة والوظائف والأعمال من فرقهم إلى أقدامهم، فلم تعد لهم لحظات تسمح لهم بأن يمسكوا كتاب الله ويقرؤوا فيه آية من آياته، وليس الإصغاء العرضي لكتاب الله في مناسبات تعاز أو نحوها إقبالا على كتاب الله ولا إصغاءً، بل أغلب الظن أن هؤلاء لا يصغون، تمر الآيات عبر آذانهم ولا يفقهون منها شيئا، وربما انحط الواحد منهم في أذن صاحبه الذي إلى جانبه يحدثه أو يصغي إلى حديثه. هذا الواقع يمثل الكثرة الكاثرة في عصرنا، وما ينغبي أن نقف عند الصورة التي ينتشدها الإنسان طربا، عندما يجد في ثلةٍ من المساجد ثلةً من الشباب يقبلون على كتاب الله، كم نسبة هؤلاء إلى جانب أولئك الذين انقطعت صلاتهم بكتاب الله نهائيا؟ لا يبلغون العشر. ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة، وأن نتأمل خطورة ما قد يحيق بنا من جراء ذلك.
كتاب الله تعالى رسالة الله لعباده في الأرض، إن صح التعبير. أرسل الله تعالى هذه الرسالة عن طريق خاتم الرسل والأنبياء، كما أرسل رسائل أخرى عن طريق السابقين من الرسل والأنبياء، أرسل كلامه خطابا لهذه الأمة يحدِّثهم فيه، يعلِّمهم، يعرِّفهم على أنفسهم، يعرِّفهم على ذاته، يعرِفهم على سُننه، يخبرهم بقصة رحلتهم في فجاج هذه الحياة، يكلِّفهم بوظائفهم التي خلقوا من أجلها، ويحذِّرهم عن التنكر عن المنهج الذي وضعه لهم. فتصوروا رسالة وردت من ملك الملوك، من علَّام الغيوب، من قهَّار السماوات والأرض إلى عباد الله، ولكنهم معرضون عن خطاب الله تعالى، لاحقهم بيان الله قائلا (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً”، “يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) يلاحقهم كتاب الله وخطابه والناس معرضون.
ماذا يصنع حاكم من الحكام أو ملك من ملوك الأرض من عباد الله عندما يُرسِل رسالة إلى بعض من رعاياه، وفيها تعليمات وبيانات ووصايا وأوامر، وينظر إذ برعاياه قد أعرضوا عن كتابه هذا ووضعوه جانبا ولم يبالوا به واستخفوا به! ماذا يصنع هذا الحاكم بهم؟! وهو عبد من عباد الله! فتصوروا في مصير عباد الله عندما يعرِضون عن خطاب ملك الملوك الذي يخاطبهم مكرِّما (يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ) يَنْسِبُهم إلى ذاته بِسِمَة العبودية، وفي هذا من الرقي ما لا يمكن أن يصفَه الواصفون، ولكنهم يعرضون! ماذا يتصورون أن تكون عاقبتهم؟! وماذا عسى أن يفيدهم انتماؤهم الإسلامي إلى دين الله وهذه هي الحال؟!
هذا هو واقعنا، ولن تكون هذه القلة التي تتحرك بها المساجد وتنشط هنا وهناك لخدمة كتاب الله، لن تكون كفَّارة لهذه الجريمة، ولن يبلغ أن يكون هؤلاء القلة شفعاء لهؤلاء المعرضين والمستخفِّين بكتاب الله. أقول هذا وأصف هذا الواقع لكي نعلم أن ليس لنا حجَّة على الله إن رأينا أننا انتقلنا من تيه إلى تيه، ومن مصيبة إلى مصيبة، ومن ذلة إلى أخرى، ومن شدة إلى شدة. إن رأينا أن الرخاء قد اختفى، وأن الشدائد بأنواعها قد ظهرت، فلا يعتبَنَّ أحد على الله تعالى! وما يصدق علينا يصدق على أناس آخرين من أبناء جلدتنا، وهم مثلنا في الانتساب إلى الإسلام والاعتزاز بدين الله، ولكن سَلْهُم وابحث يمينا وشمالا عن علاقتهم بكتاب الله تجد أن هذه العلاقة صفر. لدينا من يمثِّلون عشرةً بالمائة من المقبلين على كتاب الله، ولكنا إذا نظرنا إلى جيوب من المجتمعات الإسلامية في أوروبا أو في كثير من جهات آسيا أو إفريقيا ربما وجدنا أن الصلة قد انقطعت كليا! فإذا رأينا أن الله تعالى قد وكل أمر هؤلاء الناس إلى أنفسهم وسلَّط الله عليهم شرار الناس فلا يعتبَنَّ أحدٌ على الله، تلك هي سنة الله تعالى.