المولد النبوي الشريف 2015 :
قال تعالى “… وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ”.
إذا تصفحنا سيرة العظماء وجدنا أن سيدنا محمدا ﷺ أرفعهم ذكرا، وأبقاهم أثرا، فما عهد التاريخ رجا من عظمائه ونبيا من أنبياء الله قد أهاب بأمة كالعرب ذات بأس وحمية وإباء، يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه، وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفه حقا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها، وهم لا يرون من أره ذلك إلا قلة وهوانا واستخفافا، وإن كانوا يعرفونه من قبل بحسن الخلق وصفاء الذمة وطهارة الضمير، ويعرفون أنه لا يريد ملكا، ولا يبغي شيئا من عرض الدنيا، بل قالوا: “قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ”. ومع كل هذا فقد اجتمع له ما أراد وأعطته العرب أنفسها ونفائسها، لقد جاء ﷺ والعرب في جهل مطبق بأحكام الدين الصحيح، لم يكن لهم فن يذكر، أو صناعة تنشر، كانت قل قبيلة أمة قائمة بنفسها، تتحفز لشن الغارات، ليس لهم حضارة الروم ولا عظمة فارس، قطر السماء أعظم نعمة يرونها. آلهتم شتى، وأربابهم أصنام، لبثوا على تلك الحال ما شاء الله أن يلبثوا، وضربت دهور وهم عن حالهم لم يتحولوا، ثم كان الأمر، فإذا الافتراق اتحاد، وإذا الضعف قوة، وإذا البداوة حضارة، وإذا بالعرب يحملون راية العلم والعرفان، وإذا الجزيرة العربية القاحلة لها القيادة والريادة بين أمم الأرض وشعوبها، تنشر العدل والرحمة والمساواة، وتفتح في التاريخ صفحة مشرقة مشرفة، لا تزال تذكر إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين بكل عزة وشمم وفخار.
ماذا حدث وماذا كان؟ من هو ذلك الرجل العظيم والنبي الكريم، الذي هز الصحراء الجدباء، وأحيا الأمة بالعلم والمعرفة والأخلاق، وربى أصحابه على التحابب والإخاء، والمودة والألفة؟ من هو ذلك العظيم الذي أزاح الله به الظلام عن الكون، وأرسله رحمة للعالمين؟ من هو ذلك العظيم الذي وحد أمة فرقتها ناقة؟ إنه الحبيب محمد ﷺ، الحق الذي أرسله الحق، وأنزل عليه الحق تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للناس أجمعين، إنه صفوة الوجود ورحمة كل موجود، أكمل الخلق روحا وعقلا، وأفضلهم بدنا ورسما، وأعلاهم قدرا وذكرا، وأرقم قلبا ولبا، وأرفعهم فضلا ونبلا، وأشرفهم مجدا وعزا، وأحسنهم خلقا وخلقا، وأصدقهم قولا وفعلا، وأصفاهم طوية وقلبا، وأطهرهم نية وقصدا، وأهداهم طريقا وهديا، وأرشدهم سلوكا ومنهجا، وأنبلهم غاية ومقصدا، وأكرمهم أصلا ومحتدا، وأعزهم بيتا ومنبعا، أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فأكمل تربيته، آواه إلى كنف عزه في يتمه، وهداه من طيبة تعبده إلى نور نبوته، وأغناه من عليته، فلم يحوجه لغير وجوده، وشرح له صدره حتى انفسح لكتاب الكون علما ومعرفة، ورفع له ذكره فقرنه إعزازا له في تحقيق الإيمان به بذكره، وجعل محبته شطر الإيمان، واتباعه عنوان محبته، فلا إيمان يقينا لمن لم يكن النبي ﷺ أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، وأحب إليه من ولده ووالديه والناس أجمعين. ولا إيمان يقينا إلا لمن يمن هواه تبعا لما جاء به من الهدى والعلم. خصه بالصلاة عليه ﷺ، وألبسه خلعا من رأفته ورحمته، فكان الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، وكان المرسل رحمة للعامين.
ومع إطلالة ربيع الأنور من كل عام، تفد على المؤمنين أعز الذكريات على قلوبهم، يذكرون بذكراها مولد نبيهم ﷺ، صفوة الله من خلقه ورحمة المهداة إلى خلقه، وإذا أردت الحديث عن سيد الرسل سيدنا رسول الله ﷺ فلن نوفيه حقه، إن الحديث عنه ونحن نتنسم عبير ذكرى ميلاده، وفي دقائق معدودة من الزمن إنما هي لا غير، كلمات تومئ على استحياء إلى بعض سمات تفوقه وعظمته ونبوته، التي جعلت أفئدة الناس تهوي إليه، والتي جذبت نحوه في ولاء منقطع النظير هؤلاء الذين وصفهم رب العوة بقوله “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ”.
ولد ﷺ في شهر ربيع، فكان ميلاده نعمه، ومنشؤه فضيلة، ومبعثه هدى ورحمة، ودينه شمسا ساطعة أضاءت الدنيا كلها، فاهتدى الناس بهديها، وساروا على سننها، استناروا بنورها فتبارك الله، وعظم الرسول، وجلت الذكرى.
هو دعوة أبيه إبراهيم، وبشارة عيسى ﷺ، وصفوة سلالة قريش، لم يزل ﷺ يتنقل من خير الآباء إلى خير الأبناء، حتى انتهى كبير مكة عبد المطلب بن هاشم، ثم إلى ابنه عبد الله، والد المصطفى أشرف الناس عربا وعجما، أجل لقد اختاره الله من أرفع البيوت والمنازل، فكان فخر بني هاشم. يقول ﷺ “إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار.
لقد شب رسول الله ﷺ والله يحرسه ويرعاه، ويحفظه من أدناس الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، فجمع له الفضائل في نفسه، فهي حقا نفس من أين أتيتها رأيتها كالشمس الساطعة تبدد الظلام، وتشيع الأمن والطمأنينة والمحبة والسلام.
لم يسجد لصنم من الأصنام، ولم يشاهد ضربه في عيد من أعيدها، راح يأكل من ثمرة عمله وكسب يده، وهكذا الشرفاء من البشر، لا يجعلون لأحد من الخلق عليهم منة، آتاه الله الفصاحة وحسن البيان، وسلامة الفطرة وصفاء الحس، وثبات البصيرة، وهو القائل متحدثا بنعم الله عليه: أوتيت جوامع الكلم، واختصرت لي الحكمة اختصارا.
ومن كلامه الذي لا يجارى في كلامه قوله ﷺ “الناس لزمانهم أشبه”، “اليد العليا خير من اليد السفلى”، “الخير كثير وقليل فاعله”، “إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه”، “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.
ويوم القيامة، الأنبياء وجميع الرسل قاطبة كل لديه مع الأملاك كالخدم، كلهم يقول يوم القيامة: نفسي نفسي، إلا المصطفى ﷺ يقول للخلق أجمعين: أنا لها أنا لها. فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليس فوقه إلا الله فافتهم.
عن ماذا أحدثكم؟ عن خَلْقِه؟ يا لجمال خلقه، عن خُلُقِه؟ لقد كان خلقه القرآن، لم يكن بالجافي، ولا المهين. وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده بالحق سواء، يعطي كلا من جلسائه نصيبا، يؤثر أهل الفضل على قدر فضلهم في الدين والخلق. لا يكاد يواجه أحدا بما يكره. يقابل عذر المعتذر بالقبول، ويأمر بالحسنة ويدني أهلها، ولا يجازي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ويتجاوز عن المسيء ويسمح، ويدفع بالتي هي أحسن، ويأتي من المعروف ما أمكن، يصل الرحم ويقري الضيف، ويقطع أسباب الجنف والحيف، وعده مقرون بالإنجاز، ولفظه يشتمل على الإيجاز. لا جرم فإن المصطفى ﷺ منبع الفضائل وعنه أخذت، فلقد كوّن أمة، وأقام صرح حضارة لا تزال الأمم حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ترجع إليها وتنهل من معينها، وترتوي بعد عطشها.
والحق الذي لا مرية فيه أن العناية الإلهية القادرة هي التي أبرزت هذا الإنسان العظيم، وأمدته بعنايتها، وجعلته نورا يمسح الظلمات جميعها، فيضيء أطراف الأرضين.
العظمة الحقيقية هي الشخصية القوية الثابتة التي تأتي بالعجائب، وتأخذ بألباب المحتفين بصاحبها، وتملك مشاعر الذين يجيئون من بعده وينظرون في سيرته، الشخصية الكاملة هي التي تلقي في قلوب أهل جيلها احتراما وهيبة لصاحبها، ورغبة فيه، وتحملهم على محاكاته، وتحبب إليهم طاعته، ثم تصبغهم بصبغته، وتخلق في نفوسهم أساسا جديدا لتقبل عقيدته وآرائه، ويتصل تأثيرها هذا بقلوب الأجيال القادمة فتظل عظمته خالدة بخلود نبويته ورسالته.
وما كان السلف الصالح يفكرون في تعيين زمن خاص يذكرون الناس فيه بعظمة هذا الرسول الكريم، ذلك أنهم يرون أن عظمته ﷺ ليست من جنس العظمات التي يخشى عليها النسيان في صف الأيام حتى تحتاج إلى تذكير الناس بها، وإنما كانوا يرون أنها عظمة خالدة بخلود آثارها، تنطلق أشعتها فتنبض لها القلوب وتتحرك لها العقول، وتنشرح لها الصدور، كان ذكراها لديهم بترسم خطاها وفتح قلوب الناس لها، تلك كانت ذكراهم لعظمة نبي الله ﷺ فأين نحن من ذلك؟
وهذه وأيم الله أمانة الله حملها الآباء والأجداد، وجئنا بعدهم خلفاء، فلنسر على الطريق، ولنرعى الأمانة بحسن القدوة وجميل الأسوة.
أهلا بشهر ميلادك يا رسول الله، أهلا بمنحة الحق للخلق، أهلا بالرحمة المهداة، والصفوة المصطفاة، ما يزال فيض النبوة ينفحنا من هداه، وما تزال نواظرنا وأفئدتنا تتمثل خطاه، تهيب بنا أن نحقق النسبة إليك باقتفاء هديك، وترسّم نور شريعتك، والقرآن الكريم المنزل عليك ينادينا صباح مساء “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ”، “مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ”.
اللهم إنا نسألك سؤال المضطر إليك أن تجمع القلوب على كتابك الكريم، سنة نبيك العظيم، ارزقنا اللهم في الدنيا محبة حبيبك المصطفى، وفي الآخرة شفاعته، واجعل قلوبنا حية دائمة بحبه، واجعلنا على حوضه من الواردين، الشربين من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
سيدي رسول الله، يا من جمعت العرب بعد شتات، وأيقظت العالم من سبات، وأقمت للسماء دينا في الأرض، نشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكنت على ذلك حتى أتاك اليقين، صلى الله عليك يا سيدي كلما جرى ذكرك على لسان، أو طيفك الشريف ببال كل إنسان، أو ترسّم أحد خطاك، أو التمس مسلم هداك، فإنك بحق سيد الخلق على الإطلاق، يا صفوة الصفوة يا حبيب الله، يا رسول الحياة يا رحمة الله للعالمين، صلوا يا عباد الله على خير خلق الله.