الظلم أعلى جريمة عرفتها البشرية، وهو سبيل التهلكة، سلبت به خيرات ونزعت بركات، بسببه يحبس القطر من السماء، وتحل النقم وترتفع الأسعار وتنتشر الأمراض. مزعزع الأمن والاستقرار، وعدو الطمأنينة والازدهار…
يتسلط الظالم بقسوة قلبه على حقوق الآخرين، غير مكترث بآلامهم وأنّاتهم، قد نضب خلق الرحمة من قلبه، وتجبر على الخلق،…
تنمو في سراديب الظلم بذور الضغينة والشر، فتنبت حقدا أليما وكرها دفينا، يتضخم مع توارد الحوادث وقلة النصرة إلى ما لا تحمد عقباه. يدمر الظالم حياة البشر، ويقوض صرح الأخوة ويحطمها، يغرس النزاع والخصومات حين يتربص المسلم بأخيه الدوائر كالوحوش الكاسرة تتهارش تهارش السباع.
“يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”.
من الظلم الكفر بالله والشرك، بل هو أعظم الظلم “إن الشرك لظلم عظيم”. ومن أظلم ممن أعطى حق الله لعبيده وترك ملك الملوك وخضع للذليل المملوك، فكان كتشبث الغريق بالغريق واحتياج الفقير إلى الفقير.
العبد يظلم نفسه بتعدي حدود الله، وانتهاك حرماته، والاسترسال مع شهوات نفسه المحرمة فيحرمها لذتها الأبدية والنعيم الخالد “تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون”.
ومن الظلم التدليس في عرض حقائق الإيمان، وتحريف شريعة الرحمن، وكتم شهادة الحق. أكل أموال الناس بالباطل ظلم، والعدوان على حقوق الناس والإعراض عن آيات الله ظلم. الشرقة والقذف والغيبة والإفساد بين الناس والنميمة ظلم. الربا والتغرير بالمسلم وخيانة المودَع عنده والشريك والأجير والوكيل ظلم…
وإن هناك تطفيفا لا يعلم بالكيل والميزان، بل ترى آثاره وتسمع همساته، وأعظم خطبا وأشد ظلما، وهو التطفيف في حقوق المسلمين المعنوية بانتقاص أعمالهم، وجرح إبداعهم، والطعن في خفايا سرائرهم، والنيل من إيمانهم، وهذا مجاله أوسع والحذر منه أوجب. وحين لم يتقبل قربان ابن آدم الأول كان أسلوبه أن قال لأخيه لأقتلنك!
شهادة الزور ظلم، لما يترتب على ذلك من ضياع الحقوق وظلم المساكين… وظلم اليتيم بأكل ماله وتضييع ثروته وميراثه “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا”.
والتعدي على الجار ظلم، والقتل ظلم وعدوان…
وما أحوج المسلمين في بقاع الأرض، خاصة أولئك الذين يشهرون السلاح في عبث بأرواح الأبرياء صباح مساء باسم الجهاد ولا جهاد، ما أحوجهم أن يذعنوا لنصوص الشريعة ويصغوا لنداء أهل العلم والرأي والفضل بحقن دماء المسلمين وكفى ظلما وعارا وشنارا!
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ “واعلم أن التعسف، وسوء الملكة لمن خولك الله ـ تعالى ـ أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس، ودناءة الهمة، وضعف العقل؛ لأن العاقل الرفيع النفس، العالي الهمة إنما يغلب أكفاءه في القوة، ونظراءه في المنعة، وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة فسقوط في الطبع، ورذالة في النفس والخلق، وعجز ومهانة، ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ، أو بقتل برغوث، أو بفرك قملة، وحسبك بهذا ضعة وخساسة!
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: “كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ حَرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ قَالَ: لَمَسَّتْكَ النَّارُ”.
حقوق العباد لا تسقط إلا بردها لأصحابها مع القدرة على ذلك، أو استحلالهم منها، فإن كانت بالنفس مكن صاحب الحق من القصاص، وإن كانت في المال أعطاه مالا، أما إن كانت في العرض بسب أو غيبة وجب على المغتاب أن يشمر عن ساعده ويطامن من كبريائه مبادرا إلى التحلل بالاستغفار والدعاء للمغتاب، ويثني عليه في مجالس لوث فيها ذكره، ولعل في ذلك غنية عن إعلامه.
“لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء” هنّ بهائم لا يعقلن ولا يفهمن لكن الله عز وجل حكم عدل أراد أن يري عباده كمال عدله حتى في البهائم فكيف ببني آدم!
مع هدأة الليل، وهجعة الناس، وسكون الظلام، يتجافى جنب المظلوم عن مضجعه، متقلباً على فراشه، يئن ممن ظلمه وسلب حقه واعتدى عليه، رافعاً أكف الضراعة بقلبٍ منكسر وشعور ذليل ودموع متقاطرة ساخنة، قد اقشعر جلده، تقاربت أنفاسه، ويتجلى الرب الجبار القاهر الذي لا يقهر، الغالب الي لا يغلب، حين ينزل إلى السماء الدنيا قائلا: “من يدعوني فاستجيب له”، هنا تسري دعوة المظلوم في الليل والناس نيام، وتُفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب “لأنصرك ولو بعد حين”.