في موسم الصيف من كل عام تزداد فرص البطالة، تغلق المدارس وبعض الجامعات، وتتكاثر فرص الإجازات. ومن ثم ينشط سماسرة الشر والسوء في كل جانب من جوانب الحياة لاصطياد الشباب الذين ذاقوا لذة القرب من الله وتعرفوا على صراط الله.
والإنسان مهما استيقظت فطرته الإيمانية بين جوانحه يظل بشرا، وتظل الغرائز الحيوانية يقظة مهتاجة بين جوانحه، فما بالك إذا ازّيَّنت المرافق والأماكن كلها، وجاء سماسرة الشر يقتنصون الشباب من صراط الله ويبعدوهم عن حمى هذا الدين!
كيف السبيل وما الخلاص؟ هناك سبيلان:
السبيل الأول أن تتمتع هذه الأمة، ممثلة أولا في قادتها، تتمتع بالغيرة والرحمة على مصير هؤلاء الشباب، فإلى جانب العمل والبناء الذي تم في فصل الدراسة فلا بد أن يكون هناك إلى جانب ذلك عمل مضن في الحراسة والحماية.
حذرنا الله وأوصانا فقال (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). والسبل التي تشتَّتت الأمة عن صراط الله منها ما هو سبل فكرية اعتقادية مضللة، ومنها ما هو سبل سلوكية، سبل إغواء، سبل تدعو إليها شياطين الإنس والجن، تدعو الشباب إلى اللَّهو المحرم، إلى تضييع الوقت سدى فيما يبدده وفيما يشقيه، وفيما يضيع كل جهوده.
هذه الوصايا الربانية التي تفيض رحمة بنا، من الذي ينهض بهذا؟ إنهم قادة هذه الأمة. ما ينبغي أن يكونوا في شغل شاغل عن هذه المهمة التي أقامنا الله عليها، والتي يدعونا إليها المنطق، ما ينبغي أن نكون متناقضين في سلوكنا، من جانب نبني ومن جانب آخر نغض الطرف عمن يهدم، وهكذا لا نزال نبني ونهدم إلى أن تقوم الساعة، جهود ضائعة لا مصير لها ولا فائدة منها، هذا هو السبيل الأول.
أما السبيل الثاني، ولعله السبيل الأكثر نجاحاً، هو الالتجاء إلى الله عز وجل. شأني عندما يستنجد أحد الشباب بي من هذا البلاء الماحق أن أقول له: أنا مثلك، التجأتَ إلى عبد مثلِك، ولكن أدلُّك على من تلجأ إليه، التجئ إلى من خلقك فسواك. تأمل في هذا النهج الذي أقامك عليه وابتلاك بما تتألم منه، التجئ إلى الإله الذي فطرك على الدين القويم الذي فرحت فيه بإقبالك على الله، التجئ إلى الله تعالى الذي غرس بين جوانحك ما تتألم منه، غرس بين جوانحك هذه الغرائز وهذه الشهوات وهذه الأهواء. هل التجأت إليه؟ جُلُّ المسلمين الملتزمين بدين الله في عموم مجتمعاتنا يلازمون الدين بسائق فكري، بموجب معان عقلية وأصول حركية، وكل هذا على الرغم من ضرورته، لكنه لا يجدي، إنما الذي يجدي بعد ذلك أن تسري الروح في داخل الأنشطة كلها، وروح هذه الأنشطة كثرة الالتجاء إلى الله، كثرة التضرع على أعتاب الله، كثرة الدعاء صباح مساء، ولا سيما في الأوقات الخاصة التي يتجلَّى الله فيها على عباده تجلي رحمة.
ماذا يفيدني أن أقتنع فكريا بأن هذا هو السلوك القويم؟ أو أن أقتنع فكريا بأن هذه السبل المتعرجة مهلكة ومشقية إذا كانت الشهوات تعتلج بين جوانحي، وإذا كانت الغرائز تتغلب على فكري؟ لمن تكون الغلبة؟ ستكون الغلبة للشهوات والغرائز، ولن تكون للفكر العقلاني أبدا!
ولكن متى ترقد الغرائز والأهواء على الرغم من بقائها؟ ترقد عند الالتجاء إلى الله، عند الالتصاق بأعتاب الله، عندما يجلس الشاب على باب مولاه وخالقه وقد بسط كف الرجاء إليه، وأخذ يناجيه بانكسار، يقول له: يا رب، أنت الذي أمرتني فاستجبت لأمرك، وأنت الذي ابتليتني فهأنا آت إليك، أسألك أن تحررني مما ابتليتني به، وأنت القائل (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين)، هأنا يا رب أفر إليك من شر نفسي، أفر إليك من هياج شهواتي وأهوائي، فياذا الجلال والإكرام: أمرتني بما أمرتني به، أسألك أن تعينني على تنفيذ الأمر الذي وجهته إلي. هل جربتم أن تلتجئوا إلى الله وتجعلوا من هذا الالتجاء دواء مستمرا ثم لم تأتيكم النجدة؟ يستحيل ذلك، قال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين). وأول معنى من معاني العبادة صدق الالتجاء إلى الله تعالى.
أتعلم يا هذا ما الحكمة في أن الله عز وجل أمرك بالاستقامة ثم إنه ابتلاك بالشهوات التي تصدك عنها؟ الحكمة أنك بحاجة إلى الله، أن تعلم أنك بحاجة إلى أن تكون برحمة الله، أجل، أن تعلم أنك لا تملك من أمر نفسك شيئا إن لم يوفقك الله تعالى ويأخذ بيدك إلى الخير الذي أمرك به، وصدق الله القائل (وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
من الذي يقول: دعوت فلم يُستجب لي؟ لا، لو دعوت الله بدافع من عبوديتك له، ولم تجعل من الدعاء ساعة تتركها بعد ذلك إلى غير رجعة، لو جعلت الدعاء وظيفة دائمة لك، وِرْداً دائما لك، إذن لرأيت أن الله حيي كريم لا بد أن يستجيب لك. قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حيي كريم يستحيي من عباده إذا بسطوا أكفهم إليه أن يردها خائبة). ولكن، ماذا لو قلت لكم أن في المسلمين من يستكبرون عن بسط الأكف إلى الله؟!
نحن بحاجة إلى أن لا نحبس أنفسنا في سجن الإسلام الفكري والعقلاني، نعم نحن نعاني من هذه المصيبة، إننا نشاهد ندوات ومؤتمرات إسلامية كثيرة، ولكني لا أذكر أن ندوة منها ضجت بدعاء ابتهل به المؤتمرون تضرعا إلى الله، ولو أن هذه الفكرة طرحت اقتراحا لاستخف بها المؤتمرون، لماذا؟ لأنهم إسلاميون بالفكر وبالتخطيط وبالعقلانية، أما خط العبودية بين الإنسان وبين ربه فللأسف مقطوع.